أعلن في فرنسا عن وفاة الفيلسوف المسلم "روجيه جارودي" عن عمر ناهز القرن. لم يحظ رحيل المفكر اللامع الذي كان لسنوات طويلة ملء السمع والبصر الا بأسطر قليلة في الصحافة الفرنسية التي اكتفت بوصفه بالفيلسوف المعادي للسامية، على الرغم أن الرجل من أبطال المقاومة ضد الاحتلال النازي، وقد قضى أغلب سنوات الحرب في سجون المحتل الألماني. تعرفت على أعمال "غارودي" في السنة النهائية من التعليم الثانوي، عندما اقترح علي أستاذ مادة الفلسفة "المسيو أرنو" قراءة كتابه حول "هيجل" الذي قدم لي مفاتح فهم فكر الفيلسوف الألماني الأشهر المعروف بالتعقيد والصعوبة. بدا "جارودي" مساره الفلسفي ماركسياً، وانتمى مبكراً للحزب الشيوعي وتولى تمثيله لدورات متتالية في البرلمان الفرنسي.بيد أن انتماءه الماركسي لم يحل دون اعتناقه للدين المسيحي، الذي وجد فيه المسحة الإنسانية القيمية المكملة للنزعة المادية والمنهج الجدلي. بقي جارودي ماركسياً بعد انتقاده الجذري للتجارب الشيوعية وخروجه من الحزب الشيوعي بعد "ربيع براغ" 1968 الذي كتب حوله كتاباً جريئاً توجه فيه لضمير "المثقفين الاشتراكيين" للتخلص من نهج التضامن الميكانيكي مع سياسات الاتحاد السوفييتي العدوانية. ومن منظوره الماركسي المسيحي واجه بشراسة وجودية "سارتر" التي اعتبرها نزعة فردية مثالية على الرغم من ماركسية "سارتر" المعلنة، كما واجه المدرسة البنيوية في أوج مجدها وكتب حولها كتابه النقدي المشهور: "البنيوية: فلسفة موت الإنسان". انتقل "جارودي" من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، ثم اعتنق الإسلام سنة 1982 وكتب بالمناسبة كتابيه "وعود الإسلام" و"الإسلام يسكن مستقبلنا".عرف الجمهور العربي والإسلامي جارودي لأول مرة بهذه المناسبة، فغدا نجماً حاضراً في كل المؤتمرات والندوات وضيفاً متنازعاً في كل المنتديات، بيد أن الفيلسوف المشاكس عصيٌ على الاحتواء والاستحواذ، ولقد أثار امتعاض وابتعاد الكثير من الدوائر الإسلامية عندما انتقد بشدة تيارات الفكر الإسلامي المعاصرة، معلناً أنه لم يتخل باعتناقه الإسلام عن جوهر المسيحية وكنه الماركسية. التقيت مطولاً غارودي في تونس في صيف سنة 1990 قادماً من ليبيا، فوجدته ناقماً شاكياً من محاولة القذافي استمالته في مشروع وهمي لنشر الإسلام في أوروبا، كما شكا لي تهجم بعض العلماء السعوديين عليه وتكفيرهم له استناداً لبعض المقولات الفلسفية والصوفية التي لم يستوعبوها حسب قوله. قاطع جارودي المنتديات الإسلامية، وانسحب بتجربته الدينية ومقاربته الخاصة للإسلام إلى مدينة "قرطبة" الإسبانية التي أنشا فيها متحفاً يؤرخ للتراث الأندلسي ولتجربة التعايش النادرة بين أتباع الديانات السماوية في هذه البلاد التي شكلت تاريخياً قنطرة التواصل بين الحضارتين العربية- الإسلامية والمسيحية – الغربية. زرت جارودي في جمعيته ومتحفه بقرطبة في نهاية سنة 1991 ، حدثني عن المقاطعة الشاملة التي تعرض لها في الإعلام الفرنسي والأوروبي إجمالاً منذ كتب نصاً يحتج فيه بصراحة ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1982.ذكر لي جارودي أنه كان ضيفاً دائماً على كبريات المحطات الإذاعية والتلفزيونية وأعمدة الصحف، وكانت دور النشر الكبرى تتسابق على طباعة كتبه وترويجها، وبعدما أدان مجازر "صبرا وشاتلا" لم تقبل أي من الصحف اليومية الفرنسية الكبرى نشر أي موضوع له، ولو كان إعلاناً مدفوع الثمن. إلا أن المقاطعة وصلت مداها أثر نشر جارودي كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" عام 1996.حرم الكتاب في فرنسا، ورفعت دعاوى عديدة ضد المؤلف انتهت بإدانات بالغرامة والسجن غير النافذ، وأصبح اللقب الوحيد الذي يطلق على غارودي هو "التحريفي المناهض للسامية". والمثير في الأمر أن أغلب الذين أدانوا الكتاب لم يقرؤوه بتمعن، فالرجل لم ينكر المحرقة، ولم يتبن الدعاية النازية العنصرية، بل أقر بوضوح بحجم المأساة اليهودية وبحرب الإبادة النازية ضد اليهود.إنما أراد أن يبينه جارودي هو حقائق ثلاثة هي : أولاً:أن النازية من حيث هي نزعة عنصرية استعمارية لم تستهدف اليهود وحدهم، وإنما استهدفت بالحدة والفظاعة ذاتها شعوباً وقوميات أخرى في البلدان التي تعرضت للاحتلال والتصفيات العرقية. ثانياً: أحداث المحرقة ضخمت وأعطيت أبعاداً أسطورية غير تاريخية، من أجل توظيفها في صراعات الحاضر، ومن أجل استمالة الوعي الأوروبي الشقي. ثالثاً: إن المأساة اليهودية التي تمت بالكامل على المسرح الأوروبي وظفت لحجب حروب الإبادة وجرائم التقتيل والتهجير القسري التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين، وهكذا أصبحت أسطورة مؤسسة للدولة الصهيونية تمنحها الحصانة والبراءة الدائمة. ترجم كتاب جارودي بسرعة فائقة إلى اللغة العربية، وانتشر على نطاق واسع، واستعاد الفيلسوف المسلم جانباً من ألقه وتأثيره في الساحة العربية في حين ظلت أعماله الفلسفية الرصينة محدودة الانتشار والتأثير. وقد بدا من الجلي أن الفيلسوف الرصين الذي كتب في جوانب شتى من الهم الفلسفي انسحب تدريجياً ليخلفه الكاتب السياسي المناضل والمشاكس. وهكذا ركز جارودي في أعماله الأخيرة على محاكمة النموذج الأميركي وانتقاد السياسات الإستراتيجية الأميركية خصوصاً ما يتصل منها بالموضوع الفلسطيني والقضايا العربية والإسلامية. اختفى جارودي في السنوات القليلة الماضية، وغدت أخباره شحيحة، بعد أن أنهكته السنون وأقعده المرض، وانفض من حوله المريدون والمعجبون. لم تعد معارك الفيلسوف العجوز تثير جدلاً كبيراً في الأوساط الفكرية والإعلامية الفرنسية التي قاطعته، إلى حد أن صحيفة "لوموند" الرصينة قالت بمناسبة رحيله إنه مات فعلاً منذ عقود، ولم يعد له أي حضور، ولا أثر في الحقل الثقافي. في نص جميل من آخر نصوصه اختار له عنوان "بيداغوجيا الموت"، يذهب جارودي إلى القول إن أفق الموت ليس تجربة مأساوية بالنسبة للذي عاش مصيره بامتلاء وجرأة ومسؤولية، وإنما هو مجال مفتوح للحياة بالنسبة للذي يخرج من أنانيته الفردية الحزينة، ويرنو إلى المنظور البشري الممتد والمفتوح والمتفائل. في هذا النص الذي ينضح بالروحانية الحالمة، ويحافظ غارودي على نزعته الإنسانية الملتزمة في مرحلة تحولت الفلسفة إما إلى حوار نصي مغلق مع تراثها أو إلى مجرد تقنية للنقد والتفكيك.