أقفلت سن العشرين وأنا أؤدي الخدمة العسكرية بإحدى القواعد الكبيرة التابعة للولايات المتحدة بالعاصمة الفيتنامية سايغون، عندما كانت تلك البلاد مقسمة بين شمال شيوعي وجنوب موالٍ لأميركا، وفي تلك الفترة عُينت للخدمة بوحدة للاستطلاع حيث كانت مهمتي الأساسية اختيار الأهداف المناسبة للقصف داخل كمبوديا المجاورة التي كان المسؤولون في واشنطن يتهمونها بتوفير قاعدة خلفية للثوار الشماليين، ولأن طبيعة الأهداف في كمبوديا لم تكن واضحة ولا تندرج في إطار الأهداف التقليدية المعروفة المتمثلة في المواقع العسكرية وغيرها، فإنني لا أستطيع الجزم بأني كنت أعرف ما يجري. ولا يبدو أن ذلك كان مهماً لأحد، فبالنظر إلى الطائرات المستخدمة وقتها لقصف كمبوديا من طراز B-52 التي تحلق على ارتفاع شاهق حتى لا تكاد ترى بالعين المجردة، لم يكن هناك ما يمكن من وقفها عن إلقاء القنابل، كما أن قيام تلك الطائرات بمهامها بعيداً عن واشنطن بآلاف الأميال وبسرية تامة لا يعرف عنها سوى بعض العسكريين المنخرطين في العملية جعل من الاستمرار في القصف خياراً سهلًا للغاية. ولكن إلقاء القنابل من على علو شاهق دون تحديد أهداف عسكرية واضحة كان يتسبب في العديد من القتلى بين المدنيين، ويمكن القول إن الحملة الجوية كانت أقرب إلى حرب وحشية، وهو أمر لم يكن يخفيه المسؤولون الأميركيون وعلى رأسهم وزير الخارجية وقتها هنري كسينجر الذي قال عن عمليات القصف المكثفة على كمبوديا "إنها حملة جوية كثيفة تستهدف كل ما يطير أو يتحرك على الأرض". ويوماً بعد يوم تواصلت عمليات القصف التي تمطر على السكان الجحيم والموت، ومع أن قدرتنا على تحديد الأهداف الواضحة قد تحسنت مع مرور الوقت، إلا أن المشاكل المرتبطة بخوض حرب تكنولوجية من مكان آمن وبعيد ظلت هي نفسها، وبعبارة أخرى فقد أصبحت تلك الحروب المتقدمة التي بدأت بطائرات B-52 وتحولت اليوم إلى طائرات بدون طيار نوعاً من فتح أبواب الجحيم على الأعداء أينما كانوا، ولاسيما أننا نعيش في عصر تبقى فيه القوة العسكرية الأميركية هي الأكبر والأكثر تفوقاً على الصعيد العالمي. بل إن الولايات المتحدة قادرة على تدمير دفاعات العديد من الدول دون أن تراق منها قطرة دم واحدة. والأمر على هذه السهولة لأن تكلفة الحرب عن طريق الطائرات بدون طيران بسيطة للغاية، ولذا سارع إليها أوباما ومن قبله بوش اللذان انخرطا في حرب شعواء على الإرهاب باستخدام تلك الطائرات دون أن تترتب عليها أية معارضة دولية. بل إنها ساهمت في تعزيز رصيدهما السياسي على الصعيد الداخلي. وفي كمبوديا على سبيل المثال وبعد مرور عدة سنوات بدأت تتكشف الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبتها القوات الأميركية عندما تبين أن نسبة كبيرة من الذخيرة الملقاة على الأهداف وُجهت إلى أماكن يحظر استهدافها، وكان كل موكب أميركي يتعرض لكمين تدفع تكلفته قرية بأكملها. وعلى رغم التحسن الكبير الذي طرأ على القدرات الأميركية في ضرب أهداف محددة وإصابتها بدقة متناهية، إلا أن ذلك لم يقلل من استخدام الطائرات بدون طيار، بل لقد أعطى حافزاً أقوى لأميركا كي تنخرط أكثر في تلك العمليات، وهو ما تدل عليه عملية الأسبوع الماضي التي قتل فيها 27 من عناصر "القاعدة"، حسب السلطات العسكرية، في اليمن لتصبح هذه الأخيرة على قدم المساواة مع باكستان من حيث واقع القصف الجوي على مواقع "القاعدة". وأكثر من ذلك نالت وكالة الاستخبارات المركزية ترخيصاً بتوسيع عملياتها في اليمن لتطال ما تسميه بالهجمات "المهمة" التي لم تعد تستهدف أشخاصاً خطرين، بل تستهدف أنواعاً من الأنشطة، وهو ما يصعد من احتمال الخطأ، إذ كيف نعرف أن نشاطاً معيناً ليس أكثر من حفل زواج، أو مخيم للقرويين، أو غير ذلك. والمشكلة مع هذا التوسيع للعمليات، واستهداف أنشطة ترتفع معها احتمالات الخطأ، أنها إن كانت تعزز الرصيد السياسي لأوباما، إلا أنها تفاقم معضلة التطرف الراديكالي. فعلى رغم قدرتنا على استهداف "القاعدة" وقتل عدد كبير من عناصرها سيأتي يوم يتعين علينا فيه طرح سؤال حول الغاية من كل ذلك إذا استمرت الفكرة والأيديولوجيا، وعلينا أن ندرك أن "القاعدة" محددة ويمكن القضاء عليها بعد كل الضربات القاصمة التي تعرضت لها على مر السنوات الأخيرة، ولكن "القاعدة" لم تخترع التطرف، بل كانت جزءاً منه، بحيث سيصبح من الصعب تحقيق انتصار على آفة التطرف من خلال القتل والقصف، ذلك أن التطرف هو تيار فضفاض، ولن يهزم بالقنابل والرصاص وحده. ولذا يبقى دورنا الأساسي في الحرب على الإرهاب هو تعزيز حضور الأغلبية المسلمة الكارهة للتطرف وتهميش الفكر المتشدد الداعي للعنف، غير أن ذلك لن يتحقق إذا استمر القصف الجوي غير السليم واستهداف المواكب والحشود المشكوك في هويتها، وقد نجد أنفسنا في النهاية أمام جماعات بديلة حتى بعد القضاء على "القاعدة" ما دامت أيديولوجية العنف والتطرف موجودة في أذهان بعض الناس. ------- تيري ماكديرموت كاتب أميركي متخصص في شؤون الإرهاب ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"