كانت أجواء صباح الأربعاء الماضي (13 يونيو 2012) حمراءَ قانيةً، إنها الدماء التي سفحت في ذلك اليوم. ولتكرار الحوادث الجِسام فيه، وتطير العِراقيين القُدماء من الأَربعاء، كتبت مقالاً، قبل أربع سنوات، عنوانه "نواحس الأربعاء"، فوصلتني رسالة من فتاة عراقية قالت: لماذا هذا الشؤم، وقد ولدت فيه، وما ربط الأيام بالحوادث؟! كان احتجاجها محقاً، فللإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ): "نَعِيبُ زَمانَنا والعَيبُ فينا/وما لزَمانِنا عَيبٌ سِوانا/ونهجو ذا الزَّمانِ بغير ذَنبٍ/ ولو نَطقَ الزَّمان هَجانا" (الديوان، الفقرة: 147). والشافعي حسب بيته الآتي شاعر مطبوع غلب عليه الفقه: "ولولا الشعر بالعلماءِ يُزري/ لكنتُ اليوم أَشعرَ مِن لبيدِ" (نفسه، فقرة: 44). نعم أيام الأسبوع بالعراق غدت حمراء كافة، من سبتها إلى جمعتها، مع أن أربعة أيام هي مقدسة عند أهليه: السبت لليهود، والأحد للصابئة المندائيين والمسيحيين، والأربعاء لدى الأيزيديين، والجمعة لدى المسلمين. لكن يوم الأربعاء بالذات قد جرت فيه حوادث فاصلة في تاريخ العراق، وإن للكثير منهم تقليداً فيه، فحسب "الإمامة والسياسة" المنسوب لابن قتيبة (ت 276 هـ): "لا يتناكحون، ولا يسافرون فيه، ولا يدخلون من سفر، ولا يبايعون فيه بشيء". فاستغل ذلك الحجاج الثقفي (ت 95 هـ) فهجم هجومه الكاسح على حركة ابن الأشعث (81 -83 هـ) عند دير الجماجم بالقرب من بابل (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). أختصر الكلام في حوادث الأربعاء: دخول المغول بغداد (656 هـ)، وفي التالية قتل الخليفة (الهمداني، جامع التواريخ)، وحدث انقلاب 17 تموز 1968، واجتاح الأميركان بغداد 9 أبريل 2003. ومن الأربعاء بدأت مرحلة خطيرة مِن الحرب بين الميليشيات المذهبية، عندما فُجرت قبة الحضرة العسكرية بسامراء (22 فبراير 2006)، وفي الأربعاء (13يونيو 2007) كُر عليها بتفجير المنارتين، ووصل الحال إلى وضع السواتر بين أهل المدينة الواحدة. هذا، وماذا سنقول عن الأربعاء إذا علمنا أن كارثة جسر الأئمة حصلت في صباحه (31 أغسطس 2005)، وراح فيها أكثر من ألف وثلاثمائة عراقي. كان المنجمون قد قالوا فيه: يوم نحس قليل الخير (القزويني، عجائب المخلوقات). وقبلها وردَ: "يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر" (التوحيدي، الرسالة البغدادية)! عذراً لمن ولدوا في هذا اليوم، أو حل السرور عليهم فيه، فمثلما قالها أبو تمام الطائي (ت 231 هـ): "على أنها الأيامُ قد صرنَ كلُّها/ عجائبَ حتى ليس فيها عجائبُ". من يوقف سفح الدم؟! فما أن تهدأ الحال إلا وتُثار معركة كلامية على ملكية ضريح، وما أن تقترب المصالحة خطوة حتى يبعدها تصريح أو ممارسة خطوات. فالشجن الطائفي، وبدلو الثارات مِن بئر الماضي، تحيل خلافات الأموات إلى الأحياء، وإلا ماذا يعني اختيار هذه الأيام لتصفية حسابات الأوقاف، وتجديد حرب الأضرحة والقبور. ما معنى أن يظهر وزير ورئيس جماعة مسلحة ليقول وهو يفتتح مرفقاً لأهل العراق كافة: "ليس أمام الكُرد والشيعة سوى التحالف"؟! يطلب التحالف مع الكُرد بعزل بقية الأقوام، وكأن الوزير، المفترض أنه وزير في الحكومة الاتحادية، ليس مسؤولاً عن ميناء الفاو في أقصى الجنوب ومعبر الرُّطبة والقائم في أقصى الغرب؟! لذا وجب السؤال: التحالف ضد من بالتحديد؟! أعتقد أن وزير زمانه يقصد أن تبقى المواجهة حية بإرثها الماضي، وما تسمية الكتل الانتخابية بالوطنية والقانونية والتوافقية إلا مجرد أسماء مظاهر والجواهر هي الضَّغائن، لأنها السبيل إلى بقائه وزيراً، أو ينتظر دوره رئيساً لوزراء هذا البلد العاثر! ما نلاحظه من تصريحات السياسيين، هذا إذا كان ما يحصل سياسة لا خرافة وشعوذة. إن هناك تأسيساً لكيانات خارج مفهوم العراق ككيان جغرافي وسياسي. فالكل يطلب الحق، ولا تعرف الدائن من المدين؟! هذا ما تعكسه المحاصصة بوجهها الأبشع، فالكلُّ يتهم الكل بمسؤوليته عن سفك الدماء، والكل يتهم الكل بالفساد الذي صعدت أرقامه إلى عشرات المليارات! وربما كان الكل صادقين. نزل هذا السلوك إلى الشارع العراقي، فما أن تفتح الحديث عن مسؤول هناك ما يدينه في قتل أو نهب، إلا وكان الجواب: وفلان! ويقصد من الضفة الأخرى، ومن يريد الحياد يقول: كلهم قتلة، كلهم حرامية! وهنا ضاعت الحقوق والاعتبارات. لكن هناك حقيقة غائبة، وهي أن المعتمد على الطائفة أو القومية، بتخويفها من الآخر وتعبئتها ضده، سيواجه الاصطدام بحقوق هذه الجماعات نفسها. لأن دوائر الولاء أخذت تضيق شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى الأسرة، ليصبح الابن والأخ وبقية الأقارب هم المعتمد. أرى من العيب الآن أن نعلق الذنوب على شماعة النظام السابق، بعد اقتباس تجربته بحذافيرها، فهو قلص الحزب إلى العشيرة، والعشيرة إلى الأسرة، وانفلقت الأسرة على نفسها وعليه. مع الاعتراف له بأنه، بعد حرب 1991، أعاد الكهرباء، وضبط الحصة التموينية، وحمى الناس من القتل الكيفي، وكان متصالحاً مع نفسه فلم يدع الديمقراطية فويل لمن يحاول خطفها. لقد فشل الموجودون في اعتناق الوطنية، لمسؤوليتهم عن تحطيم البلاد، وعن سفك الدماء، وإهدار الثروة، ومسؤوليتهم عن تدني مستوى المواطن يوماً بعد آخر، وتركه يواجه الأزمات التي حولته إلى كائن مسلوب العقل. فالأزمات تبدأ مِن وساخة الشارع إلى طائفية المدرسة الابتدائية، وهي تقدم موائد الكراهية وتغييب المواطنة في مناهجها. ومَن يعجز عن تنظيف شارع أيقيم نظاماً ودولةً؟! أُذكّر ببكائية الشاعر المجد النشابي (عام 656 هـ)، قُبيل سقوط بغداد بيد المغول، وكان السقوط بائناً: "وصاحب الباب طوراً شاربٌ ثملٌ/ وتارة هو جنكيٌ وعوادُ/وشيخ الإسلام صدر الدين همته/ مقصورة لحطام المال يصطادُ/ وا ضيعة الدِّين الحنيف وما تلقاه/ من حوادث الدهر بغدادُ/ أين المنية مني كي تساورني/وللمنيةِ إصدار وإيرادُ/ مِن قبل واقعةٍ شنعاءَ مظلمةٌ/ يشيب من هولها طفل وأكبادُ". فالواقعة وقعت وتكررت بأكثر من مأساة! إن حقن دماء العراقيين بحاجة إلى صاحب عقل راجح وضمير نظيف، تجده شيعياً وسط السُّنَّة، وكردياً بين العرب، وسُنَّياً مع الشِّيعة، وعربياً وسط الكُرد، وإلى آخره مِن نكران الذوات. فلمحمد سعيد الحبوبي (ت 1915): "وإذا نبت البطاح اختلفا/ غَلب الشَّوك على الوردِ الجني" (الديوان). أقول: لا يقوم بالمهمة إلا مَن له قلبٌ لا يشغله سوى العراق!