اتفقت كلمة آلاف الشباب في الـ"فيسبوك" على النزول إلى الشارع، وبالتفاف الآخرين حولهم، اشتعلت الثورة في أكثر من بلد عربي، ولولا العالم الافتراضي لربما تأخر نزولهم قرناً آخر من الزمان، لكن هذا ليس كل شيء. فوجئ توماس فريدمان أثناء تجواله في العالم العربي بعدم وجود إلا عدد قليل من القادة الجدد "الذين اكتسبوا شرعيةً وإرادةً ليبلغوا شعوبهم الحقيقة ويؤسسوا الائتلافات اللازمة لكي تستطيع شعوبهم التحرك للأمام مرة أخرى"، وأن الفراغ الذي حدث سدّه الإسلاميون وليس الشباب الذين خاضوا المعركة ضد الديكتاتورية. ويشير أيضاً إلى أن بلاده تعاني هي الأخرى من فراغ القيادة. وكان سقوط النخبة موضوع كتاب للدكتور عبدالله الغذامي أشار فيه إلى عجزنا عن "رؤية أو تسمية قادة حقيقيين يقودون الناس ويؤثرون عليهم فكرياً أو سياسياً أو فنياً"، ومع هذا فـ"الناس يتأثرون ويتغيرون وبشكل جماعي وبتوقيت واحد"، وذلك بفضل ثقافة الصورة. ويمكن القول إنه بعد مضي ثماني سنوات من صدور ذلك الكتاب، تراجعت ثقافة الصورة نفسها أمام ثقافة الإنترنت. ويبدو أن العالم الافتراضي قادر على توحيد كلمة الناقمين، لكنه يستمر في أداء الدور نفسه إلى ما لا نهاية، فيأخذ الناقمون في تبادل النقمة فيما بينهم عبر الكيبلات تاركين الأرض للجماعات التي نظّمت نفسها من قبل وترسّخت وصار لأفكارها ومبادئها شكلاً واضحاً وملموساً، وأصبح الإنترنت بالنسبة لها وسيلة رائعةً للحشد والاستقطاب. ولنعد بالذاكرة إلى عصر ما قبل الإنترنت ونستحضر قادة التغيير، سنجد أن الأمر اعتمد كثيراً على مواصفاتهم الذاتية: بلاغتهم، وشجاعتهم، وصبرهم، وتضحياتهم، وربما أسماء عائلاتهم، ثم تأتي الظروف الخارجية لتكسو جسم القيادة رداء العظمة. بينما الأمور لا تسير هكذا الآن، إذ يمكن إسقاط من يمتلك مواصفات القائد بنقرات خاطفة، كنشر صورة مسيئة له، أو نشر مقتطف من كلام ساذج كتبه في أول شبابه، أعني أن أوراقه تكشف بسرعة وبطريقة لا يمكن الحد منها. وحتى لو كان هذا الشخص مثالياً، فإن تداول اسمه على نطاق واسع يلفت الأنظار إليه، ويغري الكثيرين بسرد حقائق معيبة ربما تتعلق بتاريخ عائلته، ناهيكم عن التلفيق... فيتحول من شخص كان يمكن أن يصبح قائداً إلى شخص يتجنب الناس النظر إليه. والأمر الآخر أن مواقع التواصل غيرت مفهوم "الجماهير"، فالقائد لا يكون قائداً بوجود جمهور يجادله في كل حرف ويحاسبه على كل هفوة، فهذا الجمهور لم يعد قطيعاً وإنما أشخاص يفكرون من خلف الشاشات، حتى لو كان تفكيراً خاطئاً، ولكل واحد منهم رأي، حتى لو كان سخيفاً، والجميع يرغب في أن يدلي بدلوه، وإلا ما كانوا يقضون وقتهم في تلك المواقع. وحتى الأفكار العظيمة والحقيقية يمكن الاستخفاف بها، ويكفي أن يطرح شخص فكرة رائعة فعلاً في بلده، فيأتي أشخاص من بلاد أخرى ويدمغونها بحجج حقيقية نابعة من الأوضاع في بلادهم، فتضيع الفكرة في ذاكرة الإنترنت، ويتوقف صاحبها عن طرح الأفكار بسبب الإحباط. أما إذا ذهب للطرق التقليدية في التواصل، فسيظل شخصاً نكرةً بالنسبة للأجيال الجديدة. لنتخيل أن جون لوك أو فوليتر أو غاندي ظهروا اليوم كشباب ومفكرين مهتمين بالقضايا العامة من خلال مواقع التواصل، فكم شخصاً سيجادلهم في أفكارهم ورؤيتهم، وكم رابطاً إلكترونياً سيُظهر أشياء تجرح كبرياءهم وتجبرهم على التخلي عن مبادئهم وتوهن عزيمتهم؟ ومن سيلتفت إليهم أصلاً إذا كان الجميع يريد أن يلفت الأنظار إلى نفسه؟