تبدو كوامن الصراع في المنطقة ثقافية أكثر من كونها سياسية، وهي ليست بعيدة بالطبع عن صراعات المصالح، ولا تتضح الفوارق بين الثقافات إلا في الفلسفات التي تنجم عنها الثقافة، ولابد من الاعتراف بأن حوار الثقافات لم يقلل شيئاً من حدة صراعها. وهذا الصراع يأخذ أشكالا مختلفة بين خفي وعلني، وهو صراع يكبر حتى داخل الثقافة الواحدة، كما حدث في مصر مثلاً؛ فقد كان الصراع على أشده بين متنافسين على الرئاسة، وهما مصريان مسلمان، لكن كل واحد منهما يمثل تياراً ثقافياً قبل أن يكون سياسياً، فالذين اختاروا شفيق مثلاً (وهم قرابة نصف الناخبين) عبّروا عن خوفهم من ثقافة "مرسي" الإسلامية، مع أنهم مسلمون مثله، لكن بعضهم أعلن وفاة مصر، وقال إنها دخلت عصر الظلام، وقد وصف مرسي بـ"الإسلامي" لتمييزه عن شفيق المسلم أيضاً (وأنا شخصياً لا أعرف تفسيراً أكاديمياً أو دينياً أو تشريعياً يحدد الفارق في المصطلح بين المسلم والإسلامي)، لكن المعنى السائد في الأذهان أن الإسلامي يريد تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها التاريخية والنصية، ولا يمكن اتهام المسلم غير الإسلامي بأنه يرفض الإسلام، فقد يقول إنه يرفض التشدد فقط، لكن هذا لا يحقق له تمايزاً مع الإسلامي الذي يقول إنه يرفض التشدد أيضاً ويدعو إلى الوسطية، والرجلان -الإسلامي والمسلم- خاطبا شعبهما بثقافة الإسلام، لأن عمق ثقافة شعب مصر إسلامي رغم كل ما مر على البلاد من ثقافات وتيارات ومحاكاة لثقافات عالمية وكونية. ويبدو الصراع دفاعاً عن الثقافات قبل السياسات، فثمة صدام حاد يتجلى اليوم بين مشروع إسلامي تعرض لإقصاء قسري عبر العقود الماضية، وبين مشروع قومي حظي بفرصة واسعة لممارسة الحكم على مدى العقود الماضية في عدد من البلدان العربية التي أوجدت لحضورها ذريعة ثورية لم يشارك فيها الشعب، وإنما شاركت فيها بعض النخب السياسية مكتفية بدور الواجهة السياسية الوطنية للحكم العسكري الذي تحول سريعاً إلى دول أمنية مستبدة، وهذا المشروع القومي افتعل خصومة فكرية مع المشروع الإسلامي كي يحرمه من المشاركة في السلطة. وثمة مشروع علماني يطلق على نفسه مشروع التنوير مفترضاً ظلامية معتمة في الآخر، وقد هادنه المشروع القومي ووجد فيه واجهة تصد عنه الهجوم "الإسلامي" بطابع فكري نظري. وفي المنقطة برزت مشاريع مهمة، كان أبرزها وأقواها، منذ انهيار الدولة العثمانية، المشروع الصهيوني، وكان له الدور الخفي الكبير في إسقاطها، وقد تصادم في العمق مع المشروعين الإسلامي والقومي، وهادن المشروع العلماني، لاسيما في إيديولوجياته المادية والماركسية لدرجة أن حزب "راكاح" مثلاً كان حزباً عربياً إسرائيلياً، أما المشاريع الكبرى مثل المشروع الأوروبي والمشروع الأميركي، فقد مضيا عبر سياسة الاحتواء المزدوج، التي لا تهدم الجسور مع النظم الإسلامية التقليدية، ولا تخفي تشجيعها للمشروع القومي العربي حين تريد مقاومة من وراء ستار لمن كان يسميها المشروع القومي "بلدان الرجعية"! ولم يكن الدعم المطلق لنظام الحكم في العراق زمن صدّام بعيداً عن هذا الاحتواء. ومع انحدار المشروع القومي الذي تمسّكت به سوريا في أواخر القرن الماضي، رغم التنازلات العملية عن شعار "البعث" القومي من "أمة عربية واحدة" إلى البحث المضني عن حد أدنى للتضامن العربي، بدأ صعود المشروع الإسلامي مستفيداً من الفراغ الروحي والعقائدي والخواء المرعب الذي حلّ بالأمة بعد سلسلة من الهزائم العسكرية والمعنوية، التي بدأت بهزيمة يونيو التي شكلت جرحاً غائراً في الوجدان العربي، ولم تستطع أن تداوي جراحه حرب أكتوبر التي انتهت إلى اتفاقيات سلام هلامية أخرجت مصر من دائرة الصراع الذي تحول من صراع مشاريع كبرى في المنطقة إلى صراع حول امتلاك عقارات بين متخاصمين على الملكية. وقد أفادت الصهيونية من الضعف الحاصل في الجسد العربي فغزت لبنان، وفتكت بغزة، واستهانت بسوريا التي قبلت مشروع السلام في مدريد، لكنها لم تجد مصداقية له، ولم تبادر إلى مشروع كالذي فعله "حزب الله" في لبنان، أو كالذي فعله الفلسطينيون حين واجهوا المشروع الصهيوني بانتفاضات ومقاومة أنهكته... بل اكتفت بدعم مشاريع المقاومة، وكانت هذه المقاومة بداية تصالح مصالح بين المشروعين القومي والإسلامي. وقد بدت المقاومة إسلامية محضة ولم ينظر أحد إلى مذهبيتها، فقد كان كثير من العرب يقدرون التكاتف بين "حزب الله" و"حماس" دون أية تفرقة بين المذهبين دينياً. والمفجع أن تكون صراعات العرب المسلمين داخل تيارات الثقافة الواحدة قد اصطادت الخلافات التاريخية، وأذكت نيران حرب صفين كأنها وقعت قبيل اندلاع ثورات "الربيع العربي". ولئن كان قدوم الرئيس مرسي إلى سدة الرئاسة في مصر يعني انتصاراً للمشروع الإسلامي، فإن أهم ما ينبغي الحذر منه هو الوقوع في أخطاء المشروع القومي ذاتها، وكان من أخطرها سياسة الإلغاء والإقصاء وقمع حرية التعبير، وفرض شعارات الحزب الواحد والتيار السياسي الواحد على كل شرائح الشعب فضلاً عن احتكار السلطة. إن أخطر ما نخشى وقوعه في تجربة مصر القادمة، هو أن تتحول جماعة "الإخوان" أو "حزب الحرية والعدالة" إلى حزب حاكم، أو أن يتفرد بسلطة مطلقة لأنها هي المفسدة المطلقة، وأحمد الله أن مرسي أعلن سعيه إلى دولة مدنية، ولم يتحدث عن دولة دينية، ولا يغيب عنه أن الدولة مدنية في الإسلام عبر تاريخه كله، وقد أسعدنا أن يطلق مشروع نهضة لمصر، وهو يدرك أن نجاح تجربته سيمهد لإعادة الاعتبار للمشروع الإسلامي، الذي أعلن أنه لن يصارع المشاريع الأخرى، ولن يقصي ولن ينتقم لمعاناته، وإنما سيتعاون مع الجميع لتحقيق النهضة، وإن أخفق فالحساب عند صناديق الانتخاب القادمة. وإذا كان من حق الآخرين أن يدافعوا عن ثقافاتهم، فعلى المشروع الإسلامي أن يحقق المصالحة الكبرى مع المشروع العروبي، لأن هذه الأمة لا تنهض إلا بعمودين هما العروبة والإسلام، وبما أن مرسي هو أول رئيس مصري يختاره الشعب الذي بات للمرة الأولى صاحب السيادة، ومصدر السلطات، فليس بوسع أحد أن يتجاهل أن هذا الشعب عربي بانتماء ثقافي غير عرقي، يضم المسيحية الأصيلة التي قدمت للثقافة العربية نهضة واسعة، وهو كذلك شعب مسلم في غالبيته، ويضم كل الأعراق والإثنيات التي تجمعها ثقافة الإسلام. ولابد من أن يكون الولاء العام للمواطنة قبل ذلك كله، وندعو الله أن تنجح تجربة مصر الديمقراطية، لأنها بها تعود إلى موقعها التاريخي، قلب العروبة النابض.