إن الحديث عن موضوع كيف تنهار الأنظمة، وكيف تعود الحرية؟ يوحي بالكثير من الكبرياء والطموح، وربما أكون قد ارتكبت خطأ بقبول الخوض في مثل هذا الموضوع الصعب. لقد كان الوضع في بلادي مختلفا في لحظة سقوط الشيوعية، إذ كنا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين نعيش في ظل ديمقراطية متقدمة جداً. فهل يمكن لمصر وتونس، أو ربما سوريا، أن تعود إلى الحرية؟ هل عاشت هذه الدول حقبة من الديمقراطية والحرية السياسية، ترغب بإعادتها؟ سأنطلق في نقاش هذا الموضوع من تجربتي الشخصية مع انهيار الشيوعية. لكني لست متأكداً من أن هذه التجربة تكفي أو أنها ذات علاقة بما يجري في المنطقة العربية، ولست متأكداً من أن الثورتين الحاليتين في مصر وتونس كانتا موجهتين ضد أنظمة توتاليتارية كما حدث في التشيك. وفي هذه الحالة الأنسب الحديث عن هذه الأنظمة كأنظمة مغالية في الظلم والاستبداد وانتهاك حرية الإنسان وكرامته. إن التوتاليتارية تحتاج إلى أيديولوجيا موحدة، وسيطرة سياسية كاملة، ومنظومة للرعب، وسيطرة تامة على الاقتصاد. النقطة الثانية تتعلق بأسباب التغيير في هذه المنطقة، فالدول الغربية تحاول تصدير ديمقراطيتها إلى باقي أنحاء العالم، لكن تجربتنا تخبرنا بأن تغيير الأنظمة يحدث في الغالب نتيجة تحفيز محلي ذاتي المنشأ وليس بالاستيراد من الخارج. والعلاقات الودية التي سادت بين بعض الديمقراطيات الغربية وبين بعض الأنظمة الاستبدادية لا تقدم دليلا ما يسند نظرية تصدير الديمقراطية. وفي السياق الأوروبي، لم يحصل التشيك على العون مما يسمى "عملية سلام هلسنكي"، وإنما من المواقف الصلبة لريجان وتاتشر. ويبدو لي أن هذا الأمر نفسه أو ما يشبهه قد حدث في هذا الجزء من العالم أيضاً خلال عام 2011. لا شك أن الملكية الخاصة لم توجد بشكل فعلي في أوروبا الشرقية إبان الحقبة الشيوعية، وهو ما ليس عليه الحال في الدول العربية والأفريقية، حيث تعرضت الأسواق عندنا للإيقاف، وعندما قمنا بالخصخصة لم تقتصر على شركة الاتصالات العامة أو المصارف الرئيسية أو مصانع الفولاذ، وإنما شملت أصغر الفعاليات الاقتصادية كمحال البقالة والمخابز والمقاهي، وكانت مهمة عسيرة. أما في هذا الجزء من العالم فالتحول الاقتصادي لن يكون تغييراً حقيقياً في المنظومة، لأنه سيكون تغييراً كمياً لا كيفياً، بمزيد من الأسواق والقليل من الحكومة، مع الأمل بقدر من اللبرلة وتقليل الضوابط التنظيمية، فالأيديولوجيا التي حكمت في السابق لم تحظر الأسواق والملكية الخاصة. لذلك، تواجه الدول العربية تحدياً مختلفاً، ففي نصف القرن الأخير قامت الأنظمة الاستبدادية في هذه المنطقة بإضعاف بعض التقاليد الثقافية والدينية، فهل إزالة قادة هذه الأنظمة ستؤدي إلى مرحلة جديدة من التنوير، كما حدث في أوروبا، أم إلى فرض المبادئ والأنماط الحياتية الدينية القديمة ضمن نسخة أكثر تطرفا؟ في كلا الحالتين يتصف التغيير بأنه تغيير منظومي لم يتوجب على التشيكيين أن يمروا به. لقد فهمنا، نحن التشيكيين، بأنه كان من الأسهل أن نقوم بتغيير سريع في المجال السياسي مقارنة بالمجالات الأخرى، ففي لحظة الثورة المخملية في بلادي كانت المنظومة الشيوعية قد وصلت فعلا إلى درجة من الضعف لم تكن النخب السياسية قادرة فيها على تنظيم حركة مقاومة جدية، فتخلت عنها ولم تحاول إطالة أمد وجودها على رأس النظام القديم. كان التحول الاقتصادي مصيرياً بالتأكيد، فاختفت مؤسسات المنظومة الاقتصادية القديمة، لكننا ورثنا بنية سوقية مشوهة جدا، واقتصادا شبه مغلق، وانخفاضا في الكفاءة، وغيابا للملكية الخاصة. قد لا نحتاج إلى البرهان، وإنما إلى التأكيد، على أن الانتقال من منظومة إلى أخرى هو عملية تغيير لا تتم بين ليلة وضحاها، فهي تتطلب وقتاً، ولها تكاليف، وهو أمر لا يحبه الناس وليسوا مستعدين للقبول به. وتتمثل مهمة السياسيين في التقليل من تكاليف الانتقال إلى حدها الأدنى، وأن يشرحوا للناس حقيقة أن تكاليف الانتقال لا يمكن أن تكون معدومة. من الضروري أن نقلص إلى أدنى حد ممكن تلك الفجوة التي لا مفر منها بين التوقعات والواقع، فعندما تصل الفجوة إلى مستوى عالٍ فستنشأ مشكلات سياسية عويصة، وهنالك العديد من التجارب المحيطة بنا تدل على ذلك، لكن هنالك أمراً مهماً، وهو أن السياسيين يجب أن يعدوا الناس بالحرية وبتوفير فرصة تحقيق الازدهار، ولا شيء غير ذلك، وأن لا يعدوهم بتحقيق نتائج. وينبغي أن يوضحوا بأن تحقيق النتائج ليس بأيدي السياسيين ودعاة الإصلاح، بل بأيدي الشعب نفسه. ولتلخيص ذلك يمكن القول بأن السياسيين يجب عليهم القيام بثلاثة أمور مهمة: 1. أن تكون لديهم رؤية واضحة ومباشرة للمستقبل، أي أن يكونوا قادرين على وضع صيغة محددة وبشكل واضح ومفهوم كليا. 2. أن يظهروا إتقانهم للإجراءات التقنية الأساسية لعملية الانتقال، أي أن عليهم أن يعلموا "كيفية الوصول إلى الهدف". 3. أن يكونوا "قادرين على شرح هذه الأفكار" لشعوب دولهم، لأن المشاركة الفعالة لهذه الشعوب شرط لا غنى عنه في تقدم هذه العملية إلى الأمام. ولا شك في أن هذه الثلاثية ككل تتمتع بمكانة مصيرية، وجميع نقاطها متساوية في الأهمية، وقد فشلت الكثير من الدول والكثير من السياسيين بسبب نسيان أي نقطة من هذه النقاط أو عدم القدرة على إنجازها. -------- فاتسلاف كلاوس رئيس جمهورية التشيك --------- ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"