كَشَتات بوابة عشتار في برلين، والجداريات الآشورية في لندن، والثور المجنح في نيويورك، ومسلة حمورابي في باريس، كذلك فنانو العراق المبدعون في الشتات؛ أعمالهم، ومعارضهم، واستوديوهاتهم، موسومة بالعراق، والمعاهد والمتاحف التي يؤسسوها أو يديروها في لندن واستوكهولم وبكين ونيويورك والشارقة والدوحة وعشرات المدن حول العالم. والعراق موئلهم في شتات الفنون العالمية، ما بين تقليدية، كالرسم والنحت والطبع، وغير تقليدية تتداخل في تكويناتها لوحات ومنحوتات، ولقطات فيديو، وعروض مسرحية، وسينمائية، و"أشياء" يكوِّنها محمود العبيدي، وعلي جبار، وهناء مال الله، وحليم الكريم، ونديم كوفي، وأحمد البحراني... كما يكوِّن الأطفال أي شيء تقع عليه أيديهم. إنه ليس الفن كما نعرفه، بل أحدث تجلياته، يحصر فناني الشتات في إطارها العراقَ ساطعاً مراوغاً كمُذنّب يمرق في السماء لحظة ثم يختفي. وتلاحظ الناقدة ندى الشبوط، أستاذة تاريخ الفن في جامعة "نورث تكساس" كيف تغيرت نظرة العالم إلى ماهية الفن العراقي في الشتات منذ غزو العراق عام 2003. "كان فنانو الشتات يواجهون باستمرار تحديات الطعن بانتمائهم". واليوم تعتبرهم المتاحف والمعارض العالمية والأسواق يمثلون الفن العراقي. تذكر ذلك الشبوط في دراستها عن هيمت محمد علي، وعمار داود، ودلير شاكر، المنشورة في كتاب "الفن في العراق اليوم". يتناول الكتاب الذي أصدرته بالعربية والإنجليزية "سكيرا"، وهي أكبر دور النشر العالمية، 16 فناناً تشكيلياً، بقلم سبعة نقاد في الشتات، باستثناء الأديب والناقد الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا. والكتاب الذي بادر لإصداره فنانو الشتات، وليس حكومة العراق، تحيةَ وفاء لذكرى جبرا الذي شهد في منتصف القرن الماضي ميلاد الفن العراقي الحديث، وكتب عنه أحسن النصوص. والكتاب شهادة في 400 صفحة من القطع الكبير ومئات الصور بالألوان على اكتشاف جبرا "الحب الصوفي الفاجع للوطن" لدى فناني العراق. وبالحب الصوفي الفاجع يرتجل فنانو الشتات العراقيون عيشهم وفنونهم، كشهرزاد ترتجل حكايات "ألف ليلة وليلة" لتُخلّص نفسها من الموت. نقتفي خطواتهم فتعثر علينا، كما في بساتين "ألف ليلة وليلة" مفاجآت فتانة، "ملاك في الحديقة"، و"أحداث مفاجئة في الساعات الأخيرة من النهار"، و"مزاج عربي"، عناوين لوحات عمّار داود، وفيها تغتلم جداريات مكسيكية، وسجاجيد فارسية، وخزفيات كنائسية أوروبية. وشهادة الفنان المقيم في قرية سويدية حُكم بالمؤبد. "التصوير أذهبني بنفسي عن وجع وجودي، فهو فضائي الذي أتنفس فيه هواء حياتي الأخرى والمفترضة. هل أقول لكم إذن إنني أكره هذا العالم. وإن كرهته فهذا لأنه مؤثث من قبل الإنسان بطريقة سيئة جداً. وهذا الأخير مشغول بتلبية حاجاته الملحة بلا هوادة، لا يعتريه وهن في الوصول إلى هدفه حتى لو كلفه هذا قتل الآخرين وقطع كل أزهار العالم وأشجاره". فنانو الشتات العراقي... ويلي عليكم، وويلي على العالم الذي تكرهونه، وويلي علينا لو أحببتمونا. ومهمة المبدعين العراقيين في الشتات هي أن يلدوا أنفسهم عراقيين، كأن قانون مخاضهم معكوساً، طَلَقُ الإخصاب بالعراق، ولذة الميلاد بالشتات. مُظهر أحمد الذي يدير أقدم محترف لفنون الحفر والطباعة بالسويد يحلّق حول العالم عشرين عاماً بأجنحة زرعها فيه "معهد الفنون الجميلة" ببغداد. يذكر ذلك في رسالته إلى الناقدة مي مظفر التي تتنسم بحس امرأة عراقية العراق في دمه. "يعمل ومن حوله تعلو ترددات المقام العراقي". وتحنُّ الناقدة المقيمة بعمان إلى النور الغامر في لوحاته عن الشتاء: "هذا التناقض بين شتاء السويد المعتم وهذه الشفافية الحزينة... هل هو رجوع في الذاكرة إلى شتاءات بغداد اللطيفة"؟.. يوضح مظهر: "تجسدُ أعمالي الفنية حتى اليوم الأفكار الأساسية التي ألهمت لوحاتي الأولى. لا زلت أستخدم أحياناً لوحاتي الأولى كطبقات تحتية وأضيف عليها لإعطاء الصورة مظهراً جديداً ومبتكراً". ويتابع الناقد فاروق يوسف، المقيم بالسويد، غسان غائب في عَمّان، وكريم رسن في تورنتو، ونزار يحيى في تكساس. "جيل استُعمل في الحرب وحين اهتدى إلى السلام كان المنفى بديلاً عن الوطن". ومن يرى رسومهم في المنفى "لابد أن يشعر بالتفاؤل. هناك رهان جمالي رابح خرج من منعطف كابوسي". الرسم لديهم "لا ينحصر في اختراع صورة للشيء بل في اختراع الشيء ذاته"، والأسئلة التي يطرحونها "هي في الحقيقة أسئلة الملايين من البشر الذين صاروا ينظرون إلى ما يجري حولهم بقدر هائل من الريبة، غير مقتنعين بأن المصير البشري يمكن أن يكون بهذا السوء". ويدخل الثلاثة "حرباً مفتوحة لا من أجل أن يكون للرسم مكان في الحياة العامة بل من أجل أن يرث الرسمُ الحقيقة"، وهذا ما كان يفعله رسامون عالميون من رامبرانت وديلاكروا وغويا حتى غوغان وبيكاسو "انتصروا للإنسانية في لحظة خواء تاريخي". "والجمال لا يُطاقُ، يدفعنا نحو اليأس، ويقترح علينا لدقيقة لمحة من الأبدية، ويقاضينا بالرغبة في سحبها على الزمان كله". هذا الجمال، كما يصفه الأديب الفرنسي ألبير كامو، كيف نقاوم الرغبة القاضية بأن نسحبه على الزمان كله من لوحات أساتذة الشتات العراقيين، "زهرة في شرفتها في مراكش" لضياء العزاوي، و"ضوء من العتمة" لرافع الناصري، و"أنثى" لعلي طالب، هكذا نقتطفها بمباذلها ونركض بها على الزمان كله. وقوة الشتات العراقي المبدع في تدبير عيش الفنانين. عالمية لغة الفن ساعدتهم في ذلك، إلاّ أن عدم وجود نقاد وخبراء على المستوى العالمي متخصصين بالفن العربي الحديث عرقلت عليهم المنافسة في أسواق الفن الدولية، والتي أصبحت بسبب الأزمة المالية العالمية ثاني أكبر استثمارات بعد العقارات. وكما يقول العراقيون "تباً للمستحيل". العزاوي المقيم في لندن منذ سبعينيات القرن الماضي، لا يُدّبر فقط عيشه على الفن، بل الفن يُدّبر عيشه على العزاوي. ويحيّرني دائماً السؤال كيف يوّفق بين المساهمة في تأسيس متاحف وجاليريهات دولية، أحدثها "متحف الفن العربي الحديث" بالدوحة، و"جاليري ميم" بدبي، وتدوين شهادات الروح العربية على العصر في لوحات ورسوم وملصقات ومنحوتات وقطع أثاث، وحتى سجاجيد تزين أماكن عامة مثل "الصندوق العربي للإنماء الاجتماعي والاقتصادي" بالكويت، و"مطار الملك فهد الدولي" بالدمام. وأين وجد الوقت لمنحوتات صدر عنها أخيراً كتاب بالإنجليزية، على غلافه منحوتة حصان الروح العراقية مطعنة بالسهام، وفي الداخل منحوتة "أبوغريب"، برونزية موحشة رهيبة، كذاكرة العالم عن تعذيب العراقيين، ضبع يعتلي بطن امرأة مطوية نصفين. واخترق العزاوي هذا الشهر أحد أكبر متاحف الفن العالمي الحديث، "تيت جاليري" في لندن اقتنى ملحمة "صبرا وشاتيلا" المغيّبة منذ رسمها العزاوي أيام مجزرة مخيم اللاجئين الفلسطينيين بلبنان عام 1982.