من سوء حظ مسلمي بورما أن العالم الإسلامي منشغل بمآسي المسلمين في بلاد الإسلام، وقد أمضيت الأسبوع الماضي في مصر، وأدهشني أن أجد عدداً من كبار المثقفين يعيشون حالة رعب من صعود ما يسمى الإسلام السياسي. ولا أدري من أين جاء هذا المصطلح الذي يفترض وجود إسلام اقتصادي وإسلام سياحي وآخر اجتماعي. وهنا أذكر أصدقائي من المثقفين بقانون أرسطو الثالث المرفوع، وهو يعني هنا إما أن تكون مسلماً أو لا تكون، ومن ظن أن الإسلام لا يصلح إلا في الجامع فقط، فهو لا يفهم من الإسلام شيئاً، بل هو يخرجه من الحياة. ولكنني أعذر بعض المتخوفين من المثقفين حين أسمع بعض الدعوات المريبة من الدعاة المتشددين ممن يفهمون الإسلام فهماً غبياً أو ممن يريدون تشويه الإسلام عبر تقديم فهم ديكتاتوري له، وينسون أن الإسلام هو أعظم من دعا لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وكان شعاره الذي وفر له الانتشار والاحترام في العالم هو (لا إكراه في الدين)، بينما تمارس ضد الإسلام اليوم أبشع صور الإكراه والاضطهاد. ولن أعود إلى تاريخ محاكم التفتيش فحسبي ما يحدث اليوم في بورما، والمؤلم أننا نحن المسلمين العرب مفجوعون منذ أكثر من ألف عام، من يوم أزيح العرب عن الحكم وسقطت دولتهم القوية في بغداد، وحكمتهم أمم أخرى لا نقلل من شأن العظماء فيها أمثال صلاح الدين وبيبرس، لكنها جعلتنا في كثير من الأزمان أيتاماً على المائدة التي أعدها أجدادنا حين تنازعنا وفشل عزمنا، حتى أهملنا العالم وازدرانا، وصار أحفادنا مهملين مضطهدين في العالم. وكثير من مسلمي بورما هم أحفاد العرب، وقد أتيح لي أن ألتقي ببعضهم في الصين وفي الهند. وقد التقيت في بكين ذات يوم شاباً صينياً فاجأتني ملامحه التي تشبه العرب، فقال أنا من أحفاد قتيبة بن مسلم، ونحن نحافظ على أنسابنا العربية الأصيلة، لكن لنا أسماء صينية لأننا نريد الاندماج الكامل في المجتمع الصيني مع حفاظنا على ثقافتنا وديننا الإسلامي. وسررت حين وجدت انسجاماً بين المسلمين والبوذيين في نيجوشيا، لكن ما نتابعه من فواجع يتعرض لها المسلمون في بورما اليوم، لفت انتباهنا إلى تاريخهم، وحين قرأت عنهم فوجئت بأن أصول الكثرة منهم عربية خالصة، وأنهم يسكنون تلك المنطقة من الجنوب الشرقي الآسيوي منذ عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهؤلاء الذين أحرقت أجسادهم وشويت على صفيح ملتهب أمام العالم ونشرت خلال هذا الشهر صور ما يتعرضون له من إبادة جماعية على صفحات "فيس بوك"، جلهم يعيشون في إقليم "آركان" ويعرفون باسم (الروهينجا) ويبلغ عددهم نحو خمسة ملايين، وجذورهم الإسلامية تمتد إلى القرن السابع الميلادي. وقد أقاموا دولة مسلمة في إقليمهم حكمها كما قرأت ثمانية وأربعون ملكاً مسلماً امتد حكمهم ثلاثة قرون ونصف القرن، وتركوا آثاراً إسلامية متنوعة بين مساجد ومدارس ومصحات. ومن أبرز ما بقي من آثارهم مسجد "سندي خان" الذي بني عام 1430 م ، وفي أواخر القرن الثامن عشر تعرض المسلمون في هذا الإقليم لإبادة جماعية في عهد الملك البوذي البورمي (بوداباي) الذي خشي من انتشار الإسلام في المنطقة، فدمر آثار المسلمين وقتل علماءهم وسجن الآلاف منهم. وقد تعرض مسلمو بورما إلى مذابح أخرى بعد الاحتلال البريطاني لبورما الذي وقع عام 1824م ، وتعرضوا لمذبحة أكثر وحشية عام 1942 حين هاجمهم الماغ البوذيون وقتلوا مائة ألف مسلم، والمريع أنهم يتعرضون اليوم للحرق الجماعي وللقتل والإبادة التي يسميها المتطرفون من البوذيين تطهيراً عرقياً ودينياً، ولا بواكي لمسلمي بورما ولا نصراء لهم ، فأهلهم المسلمون في بلاد العرب بخاصة، منشغلون بقضاياهم، وفي بعض هذه البلدان، يحارب الإسلام وتفتك بعض القوى العسكرية الوطنية بمقدسات المسلمين الذين أطلق عليهم اسم إرهابيين لمجرد أنهم يطالبون بالكرامة والحرية والديمقراطية وبتحويل الدولة العسكرية إلى دولة مدنية. وفي الوقت الذي يتعرض له المسلمون في بورما للحرق وهم أحياء يتعرض مسلمون عرب في الوطن العربي للحرق وللقتل وللإبادة الجماعية. وقد باتوا عاجزين عن نصرة إخوانهم في بورما أو في سواها من بلدان العالم التي أصبح الإسلام فيها مرادفاً للإرهاب، ولئن كان أعداء الإسلام في العالم قد فجعوا بصعود التيارات الإسلامية، فإنني أعجب من أن يفجع بهذا الصعود الديمقراطي بعض المسلمين أنفسهم، بذريعة أن الإسلاميين سيعيدون عصور التخلف والاستبداد والظلامية، ولا أدري عن أية تجربة تاريخية من الحكم الإسلامي يتحدث هؤلاء، وقد كانت ذروة الحكم باسم الإسلام في العصرين الأموي والعباسي، وهما ذروتان حضاريتان كانتا تشعان على العالم كله علماً وثقافة وحرية تعبير واعتقاد، ولم تكن الدولة الأموية دولة دينية قط، وإنما كانت دولة مدنية شارك في قيادتها المسيحيون واليهود والمجوس وكل الأعراق والأثنيات، وهاكم التاريخ يحدث عن تفاصيل هذه الفترة المزدهرة التي بلغت سدرة ذروتها في الأندلس التي تقدم إلى اليوم أجمل صور العيش المشترك بين الأديان والثقافات. وقد تابع العصر العباسي هذا الانفتاح حتى بات مصدر إلهام لقيام عصر النهضة الأوروبية، وقد انتشر الإسلام في بقاع الأرض كلها بسبب هذا الرقي والفهم الواسع لحرية التعبير والاعتقاد، وهذا لا ينفي وجود تشوهات وانحرافات، لكنها لم تمنع من ظهور فكر الاعتزال وحركة "إخوان الصفا" ومن علو شأن مدارس الفلسفة في الأندلس، وهذا ما يجب أن يعيه الدعاة والمنظرون المسلمون اليوم، بل يجب أن يعوا أن المدينة المنورة ومنطقة الحجاز شهدت في أوائل العصر الأموي أكبر حركة فنية في التاريخ العربي، فقد ظهر فيها شعر الغزل وازدهر فن الغناء. ومن يقرأ كتاب الأغاني للأصفهاني سيجد ما يدهشه من سعة فضاء الحرية التي تمتع بها المجتمع الإسلامي. ولئن كان الحقد على الإسلام والعدوان عليه في بورما وفي سواها من بلدان العالم غير مبرر إطلاقاً ولاسيما في عصر تفتح العالم كله على الديمقراطية وحقوق الإنسان واتفاقيات الحفاظ على التعددية الثقافية، فإن من الأولى أن يكون الاعتداء على المسلمين جريمة نكراء في بلاد المسلمين وهم اليوم يذبحون ويحرقون ليس في بورما فقط، وإنما في بعض بلاد المسلمين ذاتها، ويتهمون بأنهم إرهابيون.