في الربيع العربي طغت الشعارات والأوهام فاختفت الفروق بين العقل والجهل، بين الواقع والحلم، وانحدر مستوى بعض النخب في قراءة المشهد وتحليله مجاراةً للغوغاء في زحام الميادين وصخب الساحات كما في مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت الشعارات الثورية وأوهام النزاهة الثورية حاكمة على كثيرٍ من العقول والبشر فأصبحوا يغمضون أعينهم عمّا بدأ المشهد يفرزه من تشوّهاتٍ واختلالٍ في الموازين وأصبح المراد لدى البعض هو إلغاء الدولة والدساتير والقوانين. وضعت الدساتير وصنعت القوانين لتحمي سيادة الدول وأمن شعوبها واستقرارها، ولهذا فإنّ الثوّار الجدد حين يُجرّم أحدهم لا ينظرون له من المنظور الواقعي بل ينحازون بلا عقلٍ لإدانة من جرّمه بغض النظر عن حجم الجرم وضخامة الإدانة. ثمة مواقف تدل على هذا الاختلال في التوازن لدى الثوار الجدد فمن ذلك أنّ محكمة تونسيةً أدانت وجرّمت قانونياً والدة البوعزيزي الذي تمّ رفعه ليصبح بطلاً ورمزاً وحكمت عليها بالسجن، فارتبك الثوار الجدد لأنّ هذا الحكم القانوني البحت يحطّم أساطيرهم الوردية، ولم تزل محاكم مصر تدين عدداً من الثائرين الجدد وتصدر أحكامها عليهم لاقترافهم الجرائم التي تخالف القانون، وقد فعلت دولة الإمارات الأمر ذاته فطبقت حكم القانون على مخالفيه من مواطنيها والمقيمين على أراضيها. الجامع بين المشاهد ثلاثة أمورٍ: الأول، أنّ حالة الانتشاء الثورية التي عبّرت عن نفسها بأكثر من طريقةٍ في مصر وفي الخليج، أي دول الاحتجاجات ودول الاستقرار قد ركبتها جماعة "الإخوان" وجيّرتها بكافة شعاراتها لخدمة أهدافها. الثاني، أنّ حالة الاحتجاج على الدساتير والمحاكم والقوانين، التي يفترض أن هذه الاحتجاجات أو الانتفاضات الكبرى قامت لفرض احترامها وتعزيزها، تعبّر عن ديكتاتورية غوغائيةٍ جديدةٍ يراد لها أن تقضي على كيانات الدول من الأساس. أمّا الثالث، فهو حالة المزاوجة لدى كثيرٍ من "الإخوان المسلمين" بين العمل تحت الأرض بالأساليب القديمة وبالأساليب الحديثة، في الأولى التنظيمات السرية وفي الثانية أكاديمية التغيير مثالاً، وبين العمل فوق الأرض بالشعارات المعاصرة حيث الحرية وحقوق الإنسان وهيئاتها ومؤسساتها الدولية، ووسائل الإعلام العالمية ونحوها وصولاً لنفس الهدف وهو تعزيز مواقع المنتسبين لجماعة "الإخوان" داخل دولهم وضدّاً لها وإضعاف تلك الدول عبر حشد الضغط الدولي عليها، مع اعتمادٍ متزايدٍ على مواقع التواصل الاجتماعي لتشكيل رأيٍ حادٍ وليس رأياً عاماً للضغط تجاه هذا الموقف أو تلك السياسة، وهو ما تديره جماعة "الإخوان" بمكرٍ تجاه دول الخليج وعلى رأسها دولة الإمارات. بعيداً عن التاريخ وصعوباته والطبيعة وتحدياتها، فإن تاريخ الإمارات السياسي كان تاريخاً استثنائياً يجب التذكير به ووضع النقاط على الحروف في الجدل الدائر في الإمارات حول تنظيمٍ سريٍ كشفته الدولة وتعاملت معه بالطرق الدستورية والقانونية التي تحكم البلاد. كانت الإمارات استثناء في نجاح الآباء المؤسسين في بناء اتحادٍ متماسكٍ منذ ما يزيد على الأربعة عقود بينما فشلت كل تجارب الاتحاد والوحدة التي لطالما تغنّى بها قوميو عرب الشمال. استمر الآباء المؤسسون في تعزيز قوة الاتحاد ونجحوا بهدوء ودون صخبٍ إعلاميٍ في تحويل الاتحاد لأمرٍ واقعٍ يلمس المواطن أثره يومياً، واستمر الجيل الثاني من القيادة في تعزيز منجزات الآباء وتركوا الشعارات الرنانة من قوميةٍ ونحوها واتجهوا لبناء الوطن وترقيته في مدارج الكمال التنموية بحيث أصبحت الإمارات، ودبي وأبوظبي على رأسها، مضرب المثل في العالم العربي يفخر بها الطامحون للتقدّم ويكرهها الكاشحون المؤدلجون قومياً ودينياً. أعلنت الإمارات عن جماعةٍ "أسست وأدارت تنظيماً يهدف إلى ارتكاب جرائم تمس أمن الدولة ومناهضة الدستور والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الحكم في الدولة، فضلاً عن ارتباطها وتبعيتها لتنظيماتٍ وأجنداتٍ خارجيةٍ" حسبما جاء في الإعلان الرسمي على لسان النيابة العامة، وثمة شواهد قديمة وحديثة تؤكد أنّ أمراً كهذا واردٌ، وأنه من الطبيعي أن يثير مخاوف أي صانع قرارٍ، من الشواهد القديمة أنّ الإمارات استقبلت منذ الستينيات أفراداً كثراً ينتمون لجماعة "الإخوان"، ومنحتهم الحياة الكريمة وانخرطوا في مؤسسات الدولة، وشيئاً فشيئاً بدأ يتضح لصانع القرار أنهم لم يأتوا هاربين فحسب بل جاءوا بأجندةٍ "إخوانية" سعت لبناء تنظيمٍ خاصٍ داخل الإمارات تابعٍ بالكامل للمرشد العام للجماعة بمصر. تنبّه لهؤلاء المغفور له بإذن الله الشيخ زايد وحذّر منهم وسجن بعضهم، ودخل بعض المسؤولين معهم في مفاوضاتٍ لحلّ تنظيمهم بالحسنى فأبوا، ونصحهم بعض المقربين كعبدالله النفيسي بحل تنظيمهم أسوةً بتنظيم "إخوان" قطر فرفضوا، وبعد ما يسمّى الربيع العربي أحسوا بالانتشاء مثلهم مثل كثيرٍ من تنظيمات ورموز "الإخوان" في الخليج، فبدأ التصريح باستهداف الإمارات يظهر على السطح بعدما كان مخفياً، فمثلاً بدأ القرضاوي بالهجوم على الإمارات دون مبررٍ سوى كراهيته لوعي القيادة الإماراتية بخطر "الإخوان"، ومثله فعل محمد أحمد الراشد الذي أعلن بيعته لبعض "إخوان" الإمارات وطالب أتباع جماعة "الإخوان" في العالم أن يحذو حذوه، ولم يقتصر الأمر على المجال الفكري أو الدعوي الذي يمثله هذان، بل انتقل إلى التنظيم الأم بمصر والتهديد بتجييش العالم الإسلامي ضد الإمارات، وهو ما يبدو أنّ الجماعة كانت قد شرعت فيه فعلاً ولكن تحت غطاءٍ آخر هذه المرة وهو غطاء "أكاديمية التغيير" التي تجمع شباناً من بلدانٍ عربيةٍ وخليجيةٍ لتدريبهم وتعليمهم كيف ينشرون الفوضى في مجتمعاتهم ضد أوطانهم وحكامهم وهو مؤشرٌ مهمٌ على بعض الأنشطة الإخوانية التي تختبئ تحت دوراتٍ تدريبية أو مهاراتٍ إدارية أو ندواتٍ تطويرية يعلن عنها باعتبارها أنشطة طبيعية ويتمّ من خلالها تمرير أجندةٍ خفيةٍ تدعم فكر "الإخوان" وتنظيماتهم السريّة. دولة الإمارات ودول الخليج تعيش في محيطٍ مضطربٍ سياسياً وفقيرٍ اقتصادياً، وهو وضع ٌيغري باستهدافها طمعاً أو حسداً، طمعاً تحدوه الرغبة في أخذ نصيبٍ من الكعكة وحسداً يدفع للتخريب والفوضى. جماعة "الإخوان" مضطرةٌ لمجاملة دول الخليج خاصة بعد وصولهم للحكم وإدارة اقتصاداتٍ شبه منهارةٍ في دولٍ تتجه لتصبح دولاً فاشلة، ولو كانوا في بحبوحةٍ من الاقتصاد لقلبوا لها ظهر المجنّ، وهم حين يستهدفون الإمارات تحديداً ولا يكتفون بمجاملتها فذلك لأمرين: خوفهم العميق من أن تنقل الإمارات الوعي بخطرهم لغيرها من دول الخليج، وتجربة قدراتهم وتمرين أتباعهم على كيفية التعامل حين تصل لحظة الصدام.