يسعى الطب المجتمعي أو طب المجتمع (Social Medicine) في أبسط صوره إلى فهم الكيفية التي تؤثر بها الظروف الاجتماعية والاقتصادية على صحة الفرد والمجتمع، وعلى احتمالات الإصابة بالأمراض، وعلى الممارسات الطبية المختلفة. فمن خلال هذا الفهم، يمكن اتخاذ التدابير والإجراءات التي تمنح المجتمع مستوى أفضل من الصحة العامة، وتقي الأفراد من الإصابة بطائفة متنوعة من الأمراض. وتعود جذور هذا العلم إلى بدايات القرن التاسع عشر، مع بزوغ فجر الثورة الصناعية، وما تسببت فيه من زيادة في معدلات الفقر والمرض بين الطبقة العاملة، وهو ما أظهر بوضوح العلاقة بين التغيرات الاقتصادية والاجتماعية وبين الحالة الصحية العامة، وأدى أيضاً بالتبعية إلى تأكيد الحاجة إلى فهم حيوي- اجتماعي (Biosocial) للأمراض والعلل الطبية. ففي رأي كثير من رواد طب المجتمع، أن الطب الحديث يوجه جل اهتماماته للعمليات الكيميائية الجزيئية داخل الجسم، وينظر للأمراض نظرة ضيقة، ويفتقد النظرة الشمولية إلى المريض وأمراضه، وهو ما يؤدي إلى هوة وفجوة عميقة بين الظروف الاجتماعية والممارسات الطبية الاعتيادية. وهو ما يتضح من حقيقة أنه على رغم أن معدلات الإصابة بالعديد من الأمراض تختلف تبعاً للعوامل البيولوجية الحيوية، والصفات الوراثية، إلا أنه كثيراً ما تشهد هذه المعدلات تبايناً وتباعداً شديداً بين المجموعات العرقية، والفئات الاقتصادية، والطبقات الاجتماعية، بدرجة لا يمكن معها تفسير هذا الاختلاف الشديد في معدلات الإصابة، بناء على الاختلافات البيولوجية والوراثية فقط. بمعنى أن درجة التباين في معدلات الإصابة ببعض الأمراض بين فئات وطبقات المجتمع الواحد، لا يمكن أن تكون ناتجة من عوامل بيولوجية أو وراثية، بل هي نتيجة اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال نجد أن في العديد من المجتمعات الصناعية والغنية، تحتل أمراض القلب والشرايين المرتبة الأولى في قائمة أسباب الوفيات، تليها في ذلك الأمراض السرطانية، كما يحتل السكري -والمضاعفات الناتجة عنه- مرتبة متقدمة في هذه القائمة السوداوية. وتشترك هذه الأمراض الثلاثة في عوامل خطر عامة هي السمنة وزيادة الوزن والغذاء غير الصحي، وتدخين التبغ، وشرب الكحوليات، وانعدام النشاط البدني وعدم ممارسة الرياضة، ونقص المعلومات الصحية والرعاية الطبية. ولكن على رغم عمومية عوامل الخطر تلك نجد أن هناك فروقاً هائلة في معدلات الإصابة بالأمراض التي تنتج عنها بين طبقات المجتمع المختلفة -الطبقات الغنية أو الفقيرة- وبالتالي في نسبة الوفيات النهائية. وهذا يعني أنه على رغم أن عوامل الخطر تلك تبدو للوهلة الأولى كاختيارات شخصية، إلا أنه لا يمكن تجاهل ارتباطها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، مثل الجنس، والعرق، ومتوسط الدخل، والبيئة، ومستوى التعليم، ولذا يمكن إضافة العوامل الاجتماعية والاقتصادية، إلى العوامل البيولوجية والوراثية، كأحد أهم محددات الحالة الصحية. ويمكن إدراك حجم التأثير الاجتماعي، وبالتحديد تأثير العلاقات الاجتماعية الشخصية على صحة الفرد، من خلال نتائج دراسة أجراها علماء جامعتي هارفارد وكاليفورنيا، وأظهرت أن وجود صديق، أو أخ أو أخت، أو زوج أو زوجة، يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، يؤدي بالتبعية إلى رفع احتمالات الإصابة بزيادة الوزن لدى الشخص. فمن خلال تحليل كم هائل من البيانات لأكثر من اثني عشر ألف مشارك في دراسة تتعلق بأمراض القلب، قام الباحثون برسم خريطة اجتماعية لتوضيح علاقاتهم الاجتماعية ومدى انتشار زيادة الوزن والسمنة في دائرتهم الاجتماعية المقربة. وكانت المفاجأة أن وجود صديق مقرب زائد الوزن أو مصاب بالسمنة يرفع من احتمالات إصابة الشخص بزيادة الوزن بمقدار 57 في المئة، وفي حالة وجود أخت أو أخ مصاب بالسمنة تزداد احتمالات الإصابة بالسمنة بنسبة 40 في المئة، وهي النسبة التي تصل إلى 37 في المئة إذا ما كان الزوج أو الزوجة مصاباً بالسمنة.? ولا يمكن أيضاً استثناء دور الظروف الاجتماعية في الإصابة بالأمراض العقلية، التي تعتبر من أكبر مشاكل الصحة العامة على الإطلاق، وعلى جميع المستويات، الدولية، والإقليمية، حيث تظهر الدراسات والإحصائيات، إصابة ثلاثين في المئة من أفراد الجنس البشري، أو ما يقارب واحداً من كل ثلاثة أشخاص، بنوع أو آخر من أنواع الأمراض العقلية المختلفة. وتكتسي زيادة الوعي المجتمعي بالاضطرابات النفسية أهمية خاصة في ظل الوصمة والتمييز السلبيين اللذين يتعرض لهما المصابون بالأمراض العقلية، وعائلاتهم أيضاً، مما يمنع الكثير من المرضى من طلب المساعدة الطبية، أو الإعلان عن مرضهم، وتفضيل إخفائه وإنكاره. وعلى عكس المتوقع يزداد هذا التمييز والنظرة السلبية في المناطق الحضرية مقارنة بالريف، وبين أصحاب التعليم العالي مقارنة بمن هم أقل مستوى تعليمياً. وهو ما يمتد أيضاً إلى تفسير سبب هذه الأمراض حيث تظهر الدراسات أن كثيرين يرجعون الإصابة بالأمراض العقلية إلى التوتر، أو إلى ضعف إرادة الشخص المصاب، وتقاعسه عن مواجهة مشاكله النفسية بشكل حازم. وهذا مما يؤدي في النهاية إلى انتهاكات روتينية للحقوق الإنسانية لهؤلاء المرضى في معظم دول العالم مثل العزل والحبس الانفرادي، أو التقييد الجسدي، أو حرمانهم من الاحتياجات البشرية الأساسية، ومن خصوصياتهم وآدميتهم.