كان الثَّلاثاء 4 سبتمبر 2012 يوماً مشهوداً، أن صدر أمر بغلق النَّوادي؛ بعذر أن شكاوى وردت ضدها، أو ليست مجازةً، لكن ما فهمناه من مطلعين أن الإجازات عندما تنتهي يتقصد عدم تجديدها! وِمن المعلوم أن تلك النَّوادي كانت موجودة قبل تأسيس "حزب الدعوة" (تموز 1959) بعقود، وبغداد كانت هادئة ومنسجمة مع ذاتها، فعاش أبو نواس (ت 198هـ) والعابد، الذي لم يصل إلى تقواه شخص مِن الإسلام السياسي، معروف الكرخي (ت 200 هـ)، مروراً بمعروف الرَّصافي (ت 1945) ومحمود شكري الآلوسي (ت 1924)، ومحمد مهدي الجواهري (ت 1997) ومحمد الصَّدر (ت 1956). هذا، ولو عددنا ثنائيات بغداد ما انتهينا. فوجئ رواد النَّوادي الاجتماعية والثَّقافية: الأُدباء والصَّيادلة والسينمائيون بغزوة سلفية طَهورية. ربَّما لم تألفها بغداد منذ سطوة السَّلفيين الحنابلة بزعامة الحسن (قيل الحسين) البربهاري (ت 329 هـ). ولم تنج العاصمة مِن غزواته وسطواته على الدُّور إلا بعد صدور قرار الخليفة الرَّاضي بدين الله (ت 329 هـ) وقمع تلك العصابة لـ"تشرطهم على النَّاس وإيقاعهم الفتن" (مسكويه، تجارب الأمم، وقرار الراضي منشور كاملاً في هذا المصدر). لكن ما العمل إذا حل البربهاري محل الرَّاضي؟! ونركز على هذا الاسم لأنه غدا رمزاً للإكراه والاعتداء على النَّاس باسم الدِّين. يختلف الموقف إزاء البربهاري وجماعته، فمترجمو الرِّجال الحنابلة اعتبروه أحد الأتقياء (الفراء، طبقات الحنابلة). بينما وصف آخرون جماعته بالمعتدين والجهلة، وهم يطاردون المفسر والفقيه الطَّبري (ت 310 هـ) على أنه ملحد ورافضي، فقال الوزير الموصوف بزهده وعفته وتدينه علي بن عيسى الجراح (ت 334 هـ): "والله لو سُئل هؤلاء عن معنى الرَّفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه" (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). لم يكن البَربهاري خليفةً ولا وزيراً، إنما كان مِن المُرهجين، والأخيرة لابن الأثير (ت 630 هـ) معلقاً على قرار الرَّاضي في قمع تلك الجماعة: "فأرهجو بغداد" (الكامل). ومعنى الرَّهج: الغُبار، وأرهج الغُبار أي أثاره (الجوهري، الصحاح)، وكيف إذا كان المثار سوق النَّاس بالعصا؟! فكثيراً ما اُتخذ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر لطلب الزَّعامة، مع عدم التنكر للذين وقفوا بوجه العصابات في أزمنة الفتن. وللباحث سعود السَّرحان كتاب "المُرهجون"، فيه صار "النَّهي عن المنكر" شعار الثَّائرين ضد السُّلطات. وأقول: بعد السُّلطة يتحول لستر العيوب. شاهدنا، إنه العام (321 هـ) "خرج القاهر (بالله) بتحريم القيان والخمر وسائر الأنبذة، وقبض على مَن عُرف بالغناء... فنُفي بعضهم إلى البصرة وبعضهم إلى الكوفة، وبيع الجواري على أنهنَّ سواذج" (تجارب الأمم). لكن القاهر نفسه كان "لا يكاد يصحو مِن السّكر، ويسمع الغناء، ويختار مِن جواري القيان" (نفسه). المغزى أراد تبرير جَمعه للسُلطة الزَّمنية والدِّينية بالإرهاج. نأتي إلى الصَّولة الطَّهورية عنوان مقالنا، وهي تعبير مكثف عن الحملة الإيمانية التي دشنت العام 1994، وكان مرادها آنذاك مجابهة شعارات الإسلام السياسي الطهورية بطَهورية، فأُغلقت محال بيع المشروبات، واشتدت البرامج الدينية. ومنذ وصوله إلى سدة رئاسة الوزراء وحزب "الدَّعوة" بين فترة وأخرى يجس نبض الشارع بحملات، متظاهراً بالطهورية والتقوى، ولنا في هذا الحزب أصدقاء وأشقاء فلا نتحدث عنه لبغض، لكن لأنه يتولى السلطة التنفيذية ويحرك هراوات العساكر لا أكثر. إنها صولة في الإنكار على أشياء والاحتفاظ بأشياء! لا نتحدث عن تجاوز الدُّستور، الذي صار "حمال ذو وجوه"، يُفسر على ما يريدون ويشتهون، فالمواد التي تتحدث عن الحريات الاجتماعية تعطل بمواد تحفظ مراعاة الشريعة، وكأن الشريعة تسمح بشرب الأموال والدماء! لم تزعج النَّوادي النَّاس، لكنها تزعج المُرهجين، وتجار السُّوق السَّوداء، وهؤلاء ليسوا بعيدين عن صفقات مع العناصر المتنفذة، وتزعج سماسرة المخدرات، وهي رائجة الآن. هناك مخاطر في محاصرة النَّاس، على قضية ظلت بغداد لعمرها الطويل، أكثر من ألف وأربعمئة عام، متعايشة معها. مع أن هناك مَن يحاول اقتصارها على منع المشروبات. لا، الأمر ليس كذلك، إنما هي محاولة لتحويل الوطن إلى مسجد. ربَّما سيكون نوري المالكي قوياً في غلق تلك النَّوادي لو وفر سعادة لبغداد، وأنهى الفساد، وحجم المحسوبية، ولو قَبل بالمساءلة أمام مجلس النُّواب، ولو كشف عن قتلة المتظاهرين سلمياً، لو خرج على النَّاس وقال: إن الفضائيات التي يمتلكها حزبه وفروعه مِن الجيوب الخاصة. لو وافق على مساءلة المتهم بتهديد المتظاهر هادي المهدي (اغتيل 2011)، وهو الأقرب إليه. اسأل حزب الدَّعوة، بعد إرهاجه لبغداد، إذا كانت إيران مثلكم في تحقيق الدَّولة الدِّينية، فهل المشروبات نادرة الآن فيها، أم أنها أسهل مِن الماء، لكن بنفوذ السُّوق السَّوداء، وذلك يتطلب موافقة مسؤولين لهم حصص. هذه الحالة النفاقية لم يرتضها رئيس وزراء إيران محمد مصدق (ت 1967)، عندما تسلم رئاسة الوزراء عام (1953)، واقترح عليه آية الله أبو القاسم الكاشاني (ت 1961)، أحد داعمي الانقلاب في وقتها (الغروي، مع علماء النَّجف الأشرف)، أن يمنع المشروبات، مقابل أن يوهم النَّاس بالقبول برفع الأسعار، بحيلة فقيه، قائلاً: "اقبل اقتراحي وأنا أجعل النَّاس يتقبلون إضافة قران (عملة نقدية) على ثمن كيلو السكر" (رفسنجاني، حياتي). بهذا يبطل عذر الحكومة في اعتمادها على ما يردها من أموال، لسدِّ ما تعانيه بسبب مشكلة النِّفط، الذي أممه مصدق، لكن الأخير لم يوافقه. فالفائدة التي ستأتي إلى الدَّولة ستذهب إلى سدنة السُّوق السَّوداء، ومافيات المخدرات. يبقى توجيه السُّؤال إلى أعضاء البرلمان ومَن سكنوا القصور، واحتلوا مراكز تمكنهم مِن تنفيذ صولات الطَّهورية: كنتم تعيشون بالبلاد الأوروبية وتتسلمون المعونات الاجتماعية من إيجار البيت إلى بطاقة التنقل، أتعلمون أنها مِن الضرائب التي تجبى من محال المشروبات، ومِن رواتب العاملات والعمال فيها، وكنتم تنامون وهؤلاء يكدون لكم! أسألكم: أحلال أم حرام؟! ستجدون حيلة فقهية تحيل الحرام حلالاً. ولو سمح المجال لذكرناكم بما لا يعجبكم ولا يسركم. إن مَا أسس سمعة ذائعة للثقافة العراقية وللحضارة العراقية هو تلك النَّوادي، مِن روادها كان كبار علماء العراق ومثقفيه ومعمارييه وأطبائه وفنانيه. أقول: مَن يتصدى لمنصب حكومي عليه الخروج مِن الكهف الحزبي إلى روضة الوطن الأرحب؛ فالعراق ليس مزرعةً لكم تحرثونها مِن حيث شئتم.