هذا ما حاولت الإجابة عليه في ورقتي المقدمة إلى منتدى "الاتحاد" السنوي السابع، والذي حمل عنواناً مواكباً لتغيرات الساحة باسم "المشهد العربي ومسارات التحول"، وقد عُقد في أبوظبي يوم 20 أكتوبر الجاري، وشارك فيه 50 كاتباً ومفكراً ناقشوا على مدار جلستين تحديات المرحلة الانتقالية في بلدان التغيير والاتحاد الخليجي وتحدياته. سعيت في ورقتي للإجابة على ثلاثة تساؤلات: 1- لماذا حصلت هذه الثورات في بلاد "الربيع العربي"؟ 2- ما هوية ما حصل وما توصيفه؟ 3- وهل تتجه مسارات التحول للازدهار؟ بالنسبة للتساؤل الأول: فإن التراكمات السيئة التي خلفتها ستة عقود بعد انقلابات الثوار العسكريين على الملكيات الحاكمة، هؤلاء العسكريون الحالمون الذين بذلوا وعوداً كبيرة للجماهير التي صفقت لهم وسارت وراءهم ثم لم يحققوا وعداً واحداً؛ حيث وعدوا بتحرير فلسطين وبالوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتنمية، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً بل انتهت الأوضاع إلى مزيد من البؤس والتدهور وأصبح المواطن العربي خائفاً مترقباً يخشى على مصيره ومستقبل أولاده من هول التعذيب والتنكيل وإهدار الكرامة، أصبح لا يأمن على رزقه ورزق أولاده لشيوع الفساد واحتكار الثروة، إذ تحكمت أقلية فاسدة ومتنفذة في ثروات ومقدرات البلاد من غير حساب. لقد تعرض الإنسان العربي لشتى أنواع الضغوط ومرّ بخيبات كبيرة وتحطمت آماله وأحلامه في غد أفضل فتحول إلى كائن طائفي متعصب أو انتحاري متفجر. هذه الأوضاع أفرزت شخصيات مستبدة مثل صدّام والقذافي والأسد، ومتطرفين مثل بن لادن والظواهري والزرقاوي، لذلك فإن ثورات "الربيع العربي" جاءت لتعلن رفضها وتمردها على هذه الأوضاع الخانقة. وبالنسبة للتساؤل الثاني: ففي تصوري أن تداعيات هذه الثورات وحتى اليوم لا زالت محكومة برد الفعل الذي نلمسه في الدعوات والمطالبات المستمرة في تصفية حسابات الماضي والانتقام من رموز ورجالات العهد السابق والسعي لتقويض وهدم كافة المؤسسات السابقة بل واتهام كل من يعترض أو ينتقد الانحرافات الحاصلة في مسار الثورات بأنه من الفلول ومن أعداء الثورة. لا يزال "رد الفعل" هو القانون الحاكم والمهيمن على الرموز والقادة وهو الذي يتحكم في سلوكياتهم وسياساتهم ولم تتحول الثورات، وحتى اليوم، من قانون "رد الفعل" الانتقامي إلى قانون "الفعل" التنموي، وإلى البناء والإصلاح والازدهار. هناك حالة من اللايقين والضبابية والتردد وعدم الحسم تسود المرحلة الانتقالية وتجعل المواطن خائفاً قلقاً يعيش حالة ما بين الخوف والرجاء؛ الخوف على قيم "الربيع العربي": الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمعيشة الكريمة. أما بالنسبة للتساؤل الثالث: فإن الإرهاصات والدلائل لا تنبئ بأن المسارات تسير بحسب توقعات وآمال وطموحات الجماهير، لسبب بسيط وبديهي هو أن الإسلاميين الحاكمين لا خبرة لهم بأمور الحكم والسلطة ولا دراية لهم بفن إدارة الشأن العام وتحقيق التوافق الوطني، وكل خبرتهم كانت في المعارضة عبر عقود طويلة، حيث مهروا في أساليب مخاطبة الجماهير وإثارة مشاعرهم وتهييجها وتحميسها ودفعها للتظاهر والاحتجاج، لكن الإسلاميين غير مؤهلين للحكم والقيادة، وهذا ما نلمسه في تناقض قراراتهم وتضاربها، كما أن كافة حلول الإسلاميين وبرامجهم في الإصلاح والتي فاضت بها المكتبة العربية عبر نصف قرن، ليست حلولاً أو برامج عملية وهي لا تصلح لمواجهة مشكلات مجتمعاتنا المعاصرة لأنها تقوم على تصورات نظرية تفترض مجتمعاً مثالياً، ولذلك فإن الإسلاميين لا يملكون حلولاً حقيقية للمشكلات الاقتصادية والسياسية، ومن هنا نراهم يلجأون إلى نفس السياسات التي طبقتها الأنظمة السابقة، سواء فيما يتعلق بالمشكل الاقتصادي أو الديمقراطي أو الدولي، ولكن تحت غطاء إسلامي أو تبرير شرعي. نجد الحكومة الحالية في مصر تطبق نفس السياسة الاقتصادية السابقة في التوسع في سياسة الاستدانة من الخارج وفي قبول السلاح والمعونات الأميركية، كما لجأت إلى طبع 5 مليارات جنيه من غير غطاء، مع أن الإسلاميين كانوا ينتقدون النظام السابق في هذه السياسات. وفيما يتعلق بالوضع الديمقراطي فإن الفضاء الحر للربيع العربي بدأ ينحسر وضاق به الإسلاميون وبخاصة في مصر، حيث أصبحوا يتدخلون في شؤون القضاء ويرهبون القضاة ويقيدون سلطة المحكمة الدستورية العليا ويشلون يدها ويد القضاة عن مراقبة الانتخابات، ومصير المحكمة الدستورية في مهب الريح، وهناك مشروع لقانون الطوارئ ولكن بنكهة إخوانية. وحتى الآن لم يظهر الإسلاميون في بلاد "الربيع العربي" روحاً ديمقراطية تقوم على المشاركة لا المغالبة، فـ"الإخوان" في مصر لا زالوا إقصائيين يزحفون للهيمنة والاستحواذ على كافة مؤسسات ومفاصل الدولة، ويتخوف خصومهم أن تؤدي هذه السياسة إلى أخونة الدولة. وهناك مخاوف من أن الدساتير الجديدة التي تصاغ في ظل هيمنة الإسلاميين، لن تكون ضامنة للحريات العامة لأنها تصاغ بنصوص فضفاضة أو تقيد بعبارة "مع عدم مخالفة الشريعة"، لكن من يفسر الشريعة؟ مما يتيح مجالاً واسعاً لتفسيرات تقيد الحريات أو تُخل بالمساواة. وهناك من يرى في هذه الدساتير تمهيداً لدولة استبدادية بغطاء ديني، كما أن مكتسبات المرأة وحقوقها ووضعيتها في المجتمع ستكون معرضة للانتكاس إذا اعتمدت الدساتير مفهوم "التكامل" بديلاً عن "المساواة". أما الأقليات الدينية فعليها أن تقبل بالتهميش أو الهجرة. ومستقبل الفن في ظل الإسلاميين مظلم، والثقافة مصيرها غامض. وفيما يتصل بالعلاقات مع الغرب وأميركا، فقد تحول الإسلاميون 180 درجة من موقف العداء إلى موقف الصداقة، بحجة ضرورة رعاية المصالح الوطنية. لكن ألم تكن هي نفسها حجة النظام السابق الذي اتهموه بالتبعية؟ أما العلاقة مع إسرائيل فقد كان "الإخوان" ضدها واليوم يتوددون إلى رئيسها بعبارات مثل "عزيزي وصديقي العظيم"، ثم يدعي أمين جماعة "الإخوان" بأن الدولة تحكمها حسابات لا تخصنا. حسناً: لماذا لا تهاجمونها كما كنتم تفعلون مع النظام السابق إن كنتم صادقين؟ هل يزدهر ربيع العرب؟ الإجابة ليست من قبيل التكهن ولا من قبيل التفاؤل أو التشاؤم، ولكن مسارات التحول لا تنبئ بازدهار قريب.