من المسلمات الرائجة في أيامنا أنه في حين أن العلاقة بين الدين والدولة عضوية في الإسلام، فإنها عرضية في المسيحية التي نشأت كديانة محاربة لا صلة لها بالشأن العمومي قبل أن يحتضنها الإمبراطور الروماني "قسطنطين" في القرن الرابع. وقد شاعت في هذا السياق المقولة الشهيرة المنسوبة للمسيح عليه السلام "أعط لقيصر ما لقيصر ولله ما لله". وتستند هذه المسلمة إلى دعامة قوية في الفكر الاجتماعي، خصوصاً لدى "ماكس فيبر" ومدرسته في اعتبارها المسيحية "ديانة الخروج من الدين" لأسباب لاهوتية تتعلق بتصورها لانفصال العالم عن الخالق من جهة وبأطروحة التجسد من جهة أخرى التي تفتح الأفق لاستغناء "الإنسان الأعلى" عن إلهه. بيد أن الدراسات التاريخية واللاهوتية الجديدة ألقت أضواء جديدة على المسألة الدينية – السياسية في التقليد المسيحي، لا تزال مجهولة إلى حد بعيد في الفكر العربي. ومن أبرز هذه الدراسات الكتاب المتميز الشيق الذي كتبه "بول فاين"(أهم مؤرخي العصر الروماني المعاصرين) بعنوان "عندما أصبح عالمنا مسيحياً، مستقصياً ظروف وتأثيرات اعتناق الإمبراطور "قسطنطين" للمسيحية في مطلع القرن الرابع الميلادي. وما يبينه "فاين" هو أن الإمبراطور اعتنق المسيحية لأسباب ذاتية تفسر بتفوقها الروحي والفكري الذي حولها منذ القرن الثالث إلى عقيدة للنخبة قبل أن تتحول تدريجياً إلى ديانة للدولة. ولم تكن ثنائية الدين والدولة بإبداع مسيحي داخلي، بل إنها كانت قائمة في الدولة الرومانية في عصرها الوثني، وما حدث هو أن المسيحية الرومانية تأقلمت مع المقاييس المحددة لمنزلة الدين العمومية، مما لا يعبر عن المعتقدات المسيحية الأصلية كما تترجمها الأناجيل. يوضح "فاين" أن الدين في العصر الوثني كان حاضراً بقوة في المجتمع الروماني ومتداخلًا مع كل شؤون الحياة، لكنه كان بسيطاً وخفيفاً وغير ملزم معيارياً.وما حدث مع دخول المسيحية هو تحول الدين إلى مدونة عقدية وسلوكية ومعيارية قوية ومنسجمة فرضت على القيصر نفسه أن يحدد ويضيق مجال نفوذه وأن يكون في خدمة نشر الدين والدفاع عنه. ولهذا التحول دلالة سياسية جلية، باعتبار أن السلطة المطلقة لاهوتياً وعقدياً منحصرة في الرب، فلا معنى للإرادة الإنسانية الفاعلة (ومن هنا النقاش اللاهوتي الوسيط حول طبيعة الإرادة الإلهية من حيث كونها تلقائية مباشرة أو تمر عبر وسائط بشرية). وهكذا من الطبيعي أن ينشغل العصر الوسيط المسيحي كله بأشكال العلاقة بين "مدينة السماء" (الروحية الغيبية) ومدينة الأرض، مما عرف "بنزاع السيفين" (إشارة إلى العبارة التي يعزوها إنجيل متى للمسيح: لم آت لحمل السلم إنما جئت لحمل السيف). فلم تكن الحلول العلمانية للمسألة الدينية – السياسية كما تبلورت منذ القرن السادس عشر تعبيراً عن خيارات وثوابت لاهوتية نصية، ولا تجسيداً في بداياتها لمواقف نظرية مناهضة للدين، وإنما اقتضاها صراع المركزية الكنسية في نزوعها لتشكيل دولة مستقلة والبنيات الجنينية للدولة الحديثة، وقد تمحور الصراع حول مفهوم "الحق المقدس". بيد أن ما يبينه "رمي براغ" في كتابه "قانون الإله" هو أن مفهوم "الحق المقدس" نشأ لدى حكام الغرب الحديث من أجل إضفاء الشرعية المقدسة على أنظمة حكمهم في مقابل السلطة المقدسة للبابا الرافضة لهذا المفهوم، الذي ينزع من الكنيسة سلطة احتكار تأويل النص الديني. فالدولة الحديثة لم تنشأ من النظريات العلمانية، بل إن الكنيسة هي التي اقترحت مبدأ الفصل لمنع قداسة الحالة السياسية المنفلتة منها، في الوقت الذي تبنى كل فلاسفة ومفكري الدولة المدنية الحديثة شرعية "الحق الإلهي" للدولة. بيد أن الفصل بين الدين والسلطة السياسية في الدولة الحديثة لا يلغي حقيقة كون هذه الدولة امتاحت منابع شرعيتها ونظم اشتغالها من التقاليد الكنسية، كما بين الباحثون الجادون منذ أعمال المفكر النمساوي "اريك فجلين" (خصوصاً في مجلداته الخمسة: النظام والتاريخ الصادر عام 1965)، وامتداداتها الراهنة لدى كامل من الباحثين لا يتسع المقام لذكرهم. تبدو هذه الحقيقة في طبيعة المخيال السياسي للدولة الحديثة في ثنائية النموذج التسييري للحكم مع الحفاظ على الطابع المفارق للسلطة، مما يعكس الأطروحة اللاهوتية للتثليث:السلطة التي لا تمارس إلا بالتفويض في الوقت الذي لا تقبل التقسيم والتجزئة. نشير هنا إلى النقاشات اللاهوتية الخصبة في القرن الرابع عشر حول نظرية القانون والعدالة، ببروز اتجاه من أهم ممثليه "دان سكوت" و"غيوم دوكام" خرج عن تصورات اللاهوت الطبيعي التي وضعها "توماس الإكويني" (النظام الطبيعي الذاتي للكون) إلى فكرة القانون كتعبير عن الإرادة الإلهية الحرة بحيث لا تكون للمعايير قيمة طبيعية أصلية. ويفتح هذا القول (المتأثر لا محالة بعلم الكلام الأشعري) الباب أمام فكرة القانون الوضعي من حيث هو حصيلة إرادة مستقلة عن المدينة والطبيعة. ونلاحظ كيف نقل فلاسفة الحداثة السياسية (هوبز وسبينوزا وزرسو..) مفهوم القانون الإلهي من مرجعيته اللاهوتية إلى مرجعيته الاجتماعية، مع الحفاظ على البعد الإطلاقي المفارق الذي لا يمكن الاستغناء عنه في مقاربة ترفض مقولة "الحق الطبيعي" (في نسختها اليونانية – الإكوينية) وتستشعر فقر وهشاشة الإرادة التعاقدية الحرة. إنما نريد أن نخلص إليه هو أن المسيحية لم تشذ عن باقي الديانات التوحيدية في تصورها الكلي الشمولي للدين بصفته عقيدة لها أثر عملي على كل مناحي الشأن البشري بما فيها الجانب السياسي المنظم. وإذا كانت الدولة المدنية الحديثة نشأت في سياق مسيحي، فإنها تبلورت في إطار لاهوتي استمدت منه مقولاتها المؤسسة ورمزيتها الناظمة دون أن يمنعها ذلك من الفصل بين دائرتي الاقتناع الفردي والقيم الكلية الجامعة. لم يحدث هذا التحول إذن بالقطيعة مع الدين أو إلغائه، وإنما باستيعابه في مقاصده الخلقية وفاعليته التنظيمية وشرعيته المطلقة المقدسة، بتحرير الفرد من السلطات المقيدة، وفي مقدمتها سلطة التأويل الدينية المفسدة للتدين الحقيقي الحر.