مازلنا نواصل ارتياد الآفاق اللانهائية لعالم القراءة. ها نحن اليوم نرتاد أفقاً جديداً من هذه الآفاق، نفتح من خلاله طاقة معرفية جديدة، نستشرف من خلالها كيف تصبح القراءة وفن الحب صنوان، وكيف لهما أن يجعلا لحياتنا ووجودنا قيمة ومعنى، ويؤسسا لعالم يصبح العطاء والإنتاج المعرفي أهم ما يميزه. لكن ما العلاقة- التي قد تبدو غريبة - بين القراءة وفن الحب؟ وما مبرر استخدام كلمة «فن» هنا حينما نتحدث عن الحب؟ بمعنى آخر: هل الحب فن؟ وهل القراءة مثلها مثل الحب، فن؟ وما الحب الذي نقصده هنا؟ وما هي العلاقة بين فن الحب والقراءة؟ وكيف يكون الحب شعلة لطاقة تهبنا روحاً متجددة تسري بنا دائماً إلى أفق جديد من الآفاق اللانهائية لعالم القراءة؟ لنبدأ إجابتنا عن هذه الأسئلة- التي نهدف من خلالها استكشاف طبيعة العلاقة بين القراءة وفن الحب- بالإجابة عن السؤال المحوري ألا وهو: هل الحب فن؟ أم أنه مجرد إحساس يأتي للإنسان صدفة، ويجلب له السعادة، التي قد تكون مؤقتة وزائلة؟ لعل إجابتنا على هذا السؤال تتفق مع إجابة المفكر الشهير « أريك فروم» في كتابه الذي يحمل عنوان «فن الحب» (ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار العودة، بيروت، 2000)، وهو الكتاب الذي دفعني لمحاولة استكشاف طبيعة العلاقة بين القراءة وفن الحب. ودفعني كذلك إلى التفكير في معان جديدة للحب- تتجاوز تلك المعاني التي استقرت في عقل ووجدان الغالبية من الناس. والتي قد تفضي بهم إلى فهم غير صحيح للحب، وتدفعهم نحو ارتكاب أفعال بعينها تسفر عن نتائج تخالف توقعاتهم. يقول«أريك فروم» في مستهل إجابته على سؤال هل الحب فن: «الخطوة الأولى التي علينا اتباعها هي أن نصبح واعين تماماً بأن الحب فن تماماً كما أن الحياة فن. وإذا أردنا أن نتعلم كيف نحب، فعلينا أن نتعلم بالطريقة عينها التي ننطلق بها إذا أردنا أن نتعلم أي فن آخر كالموسيقى أو الرسم أو النجارة أو فن الطب أو الهندسة»، (ص 14 من كتاب فن الحب). الشاهد في هذه الإجابة التي تتعارض مع قناعة غالبية الأفراد - ممن يرون أن الحب إحساس يأتي صدفة ويجلب السعادة للأفراد، هو أن الحب، مثله مثل غيره من الفنون الأخرى – هو فن . وكون أريك فروم يقرن بين فن الحب وغيره من الفنون الأخرى مثل فن الموسيقى، وفن الرسم، أو فن الهندسة، أو الطب لا يقلل من أهمية الحب، كما لا يقلل من أهمية الفنون التي ذكرها، بل على العكس فكل هذه الفنون تحتاج إلى تعلم كما تحتاج إلى خبرة وممارسة. فلا يمكن لأي فرد أن يبرع في مهنة ما من المهن إلا إذا تعلم أصولها وتدرب على ممارستها. وهكذا حال الحب، شأنه شأن بقية الفنون الأخرى، هو فن، ومعنى كونه فناً، فذلك يستلزم معرفة وبذل الجهد والطاقة من أجل بلوغ هذا الحب. فالوصول إلى هذا الحب - الذي لا يأتي صدفة وليس مجرد إحساس زائل بالسعادة - يحتاج إلى بذل الطاقة والجهد، كما يحتاج إلى التعلم: تعلم كيف نحب. وإذا تعلمنا كيف نحب، تعلمنا أيضاً كيف نحيا، وبالأحرى تعلمنا معنى الحياة، ولا غرابة أن نجد «أريك فروم» يربط بين «فن الحب » و «فن الحياة». فإذا تعلمنا كيف نحب، أصبح لحياتنا ووجودنا معنى. فمن دون الحب لا يمكن للفرد ولا المجتمع أن يستمرا في الوجود، بل لا يمكنهما أن يوجدا من الأصل، فالحب هو النسيج الذي يغزل بين أفراد المجتمع ثوب الألفة والمحبة. وفي هذا يؤكد «فروم» على أن أية نظرية عن الحب يجب أن تبدأ بنظرية عن الإنسان، يجب أن تبدأ بنظرية عن ماهية الإنسان وجوهره. لكن ما الحب الذي نعنيه هنا؟ إنه الحب الذي نعنيه هو الحب الذي يتجاوز الأحاسيس الذاتية للفرد، الحب الذي يحرر الإنسان من أنانيته، كما يحرره من سجن الأنانية والإنغلاق على الذات. الحب الذي يرتقي بوعيه: وعيه بنفسه، ووعيه بإمكانياته. وعيه بمجتمعه، ووعيه بماضيه، وبمستقبله، الحب الذي يمكنه من بناء جسور الانتماء بينه وبين الناس والعالم الخارجي، ويعمق من انتمائه لمجتمعه. إن الحب هنا يصبح قرين العطاء. وهذا هو أرقى أنواع الحب، كما يبلغ الحب أرقى مراتبه عندما يفتح أمامنا آفاقاً معرفية جديدة، ويهبنا طاقة متجددة من العطاء، طاقة تمكننا من أن نعطي للآخرين من بهجتنا ومن علمنا ومن وعينا، لكي يصل بنا هذا الحب إلى مرافئ جديدة من الجمال والإبداع. ومن هنا ندرك الرابطة المتينة بين الحب وبين القراءة، فإذا كان الحب « فناً» يحتاج إلى تعلم وبذل الطاقة والجهد، فالأمر نفسه ينطبق على«القراءة »، تلك العملية التي تحتاج إلى ممارسة، وتستلزم طاقة متجددة وعزيمة لا تلين. وإذا كان الحب الذي نعنيه هنا هو ذلك الحب الذي يفتح أمامنا آفاقاً معرفية جديدة، فإن القراءة تضحى سبيلًا لبلوغ هذا الحب، فلا يمكننا أن نرتاد هذه الآفاق المعرفية الجديدة دون أن تكون القراءة هي القمر الذي ينير لنا هذه الآفاق. وإذا كان الحب الذي تعنيه هنا هو ذلك الحب الذي يمكننا من أن نعطي للآخرين من علمنا ومن وعينا، فكيف لنا أن نتعلم، وكيف لوعينا أن يتسع ويتعمق دون أن نتعلم كيف نقرأ وكيف تصبح القراءة أداة لتشكيل وعي يحررنا من أنانيتنا، ويمنحنا القدرة على العطاء. وإذا كان الحب الذي نعنيه هنا هو ذلك الحب الذي يصل بنا إلى مرافئ جديدة من الجمال والإبداع، فإن القراءة هى وسيلتنا لبلوغ هذا الجمال وذاك الإبداع، وهي وسيلتنا لاكتشاف مناطق الجمال الكامن في ذواتنا، وفي كل ما حولنا، وهي التي تجعلنا نعيد انتاج هذا الجمال بأشكال متنوعة من الإبداع. وإذا كان الحب الذي نعنيه قرين العطاء، وإذا كان العطاء قرين الإنتاج، فإن القراءة – كما الحب – تصبح وسيلة من وسائل الإنتاج، الإنتاج في مجال المعرفة والفكر، وهذا هو أرقى أنواع الإنتاج. كما أنه بات السبيل الأوحد لتأسيس مجتمع المعرفة، ولنا في هذه القضية حديث آخر.