رحلة رائعة انتهت. فبعد عدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، ارتفعت الإحصائيات الاقتصادية التي نهتم بها أكثر من غيرها كلها كما لو أنها مترابطة بقوة؛ حيث نما الناتج المحلي الخام الأميركي – الاقتصاد – تماماً على غرار الإنتاجية – قدرتنا على الحصول على إنتاج أكبر من كل عامل. وفي هذه الأثناء، خلقنا ملايين الوظائف؛ والعديد منها كانت من النوع الذي كان يسمح للعامل الأميركي المتوسط، الذي ليست لديه شهادة جامعية، بالتمتع بمستوى معيشة مرتفع ويواصل الارتفاع. ثم تباطأت الإنتاجية في عقد السبعينيات – وهو تطور دفعنا إلى الشعور بالقلق على نحو مبرر – ولكنها ارتفعت من جديد في التسعينيات وظلت قوية معظم الوقت منذ ذلك التاريخ. غير أن نمو الإنتاجية ونمو الوظائف أخذا يصبحان منفصلين عن أحدهما الآخر نهاية ذلك العقد. ويسمي الخبير الاقتصادي «جارد برنشتاين» الهوة التي انفتحت «فكي الأفعى»، وهما لا يُظهران مؤشرات على الانغلاق. فصحيح أننا نخلق وظائف هذه الأيام، ولكن ليس بما يكفي. ذلك أن نسبة العاملين مقارنة مع إجمالي عدد السكان، أو نسبة من هم في سن العمل ولديهم وظيفة، انخفضت بأكثر من خَمس نقاط مئوية خلال «الركود الكبير» ولم تتحسن سوى بنصف نقطة مئوية خلال السنوات الثلاث ونصف السنة تقريباً بعد انتهائه. وفي وقت انفتح فيه فكا الأفعى، عانت الأجور أكثر من معاناة نمو الوظائف. فعندما نأخذ التضخم بعين الاعتبار، نجد أن لدى العائلة الأميركية المتوسطة اليوم دخل أدنى مقارنة مع 1997. كما أن الأجور كجزء من الناتج المحلي الخام توجد اليوم في انخفاض قياسي، حتى في وقت ترتفع فيه أرباح الشركات إلى مستويات قياسية. وبالتالي، فيمكن أن نقول إن الاتفاق الضمني الذي كان يمنح العمال نصيباً مضطرداً من مكاسب الإنتاجية قد انحل. فماذا يحدث؟ ولماذا أصبحت الإحصائيات التي يهتم بها العمال - حجم الوظائف والأجور – منفصلة عن بقية قطار التقدم الاقتصادي؟ هناك تفسيرات عديدة لذلك، ومن ذلك تغييرات الضرائب والسياسات، وتأثيرات العولمة أو نقل الخدمات وعمليات الإنتاج إلى بلدان أخرى. والواقع أننا متفقون على أن هذه الأخيرة تعتبر مهمة، ولكننا نريد أن نؤكد على محرك آخر لـ«الانفصال الكبير»: الطبيعة المتغيرة للتقدم التكنولوجي. فبينما تصبح الأجهزة الرقمية مثل الحواسيب والروبوتات أكثر قوة وقدرة مع مرور الوقت بفضل «قانون مور»، فإنها تستطيع القيام بمزيد من العمل الذي كان يقوم بها البشر. فالعمالة الرقمية، باختصار، تعوض العمالة البشرية. وهذا يحدث أولا مع مهام روتينية أكثر (بدنية وعقلية)، وهو جزء كبير من السبب الذي يفسر لماذا رأى العمال الأقل تعلماً أجورهم تنخفض أكثر من غيرهم خلال العقود الأخيرة في وقت تعمقنا فيه بشكل أكبر في عصر الكمبيوتر. وبينما نتقدم إلى الأمام، فيمكن القول إن «الانفصال الكبير» لن يزداد إلا سرعة لسببين اثنين. أولا، لأن «قانون مور» سيستمر، حيث سيستمر سعر الكمبيوترات في الانخفاض بشكل جذري مع مرور الوقت. وستصبح العمالة الرقمية أرخص من العمالة البشرية ليس في الولايات المتحدة وبلدان غنية أخرى فقط وإنما أيضاً في أماكن مثل الصين والهند. وبالتالي، فإن نقل الخدمات وعمليات الإنتاج إلى بلدان أخرى ليس سوى طريقة على طريق «الأتمتة». وثانياً، لأن التكنولوجيات ستستمر في أن تصبح أكثر قوة وقدرة، وفي الحصول على مهارات وقدرات متقدمة أكثر. فهي تستطيع منذ بعض الوقت سياقة السيارات وسط حركة المرور، وفهم خطاب بشري طبيعي وإنتاجه، وهزم أفضل لاعبي مسابقة «جيوباردي» البشر. وقبل بضع سنوات فقط، كان معظم الخبراء سيسمون هذه الأشياء «مهاماً غير روتينية» - أي من النوع الذي يفترض أن الكمبيوترات لا تجيدها. والواقع أن التقدم الرقمي فاجأ العديد من الناس مؤخراً، إلا أننا مازلنا لم نر شيئاً بعد. ولعل أفضل من لخص تداعيات التقدم التكنولوجي على القوة العاملة هو الرأسمالي «مارك أندريسن» الذي يقول: «إن انتشار الكمبيوترات والإنترنت سيقسم الوظائف إلى فئتين: أشخاص يخبرون الكمبيوترات بما عليها أن تفعله، وأشخاص تقول لهم الكمبيوترات ما عليهم أن يفعلوه». والواقع أن «الانفصال الكبير» لن يوقف هذا المسار، للسبب البسيط المتمثل في أن التقدم في التكنولوجيات الرقمية ليس على وشك التوقف. بل إننا مقتنعون بأنه يزداد سرعة. وقناعتنا القوية هو أن ذلك يفترض أن يمثل خبراً ساراً لأمننا وحياتنا، وذلك لأن التقدم الرقمي يخفض الأسعار، ويحسن الجودة، ويوسع الاختيار، ويدخلنا إلى عالم حيث الوفرة، وليس الشح، هي القاعدة في أغلب الأحيان. غير أنه ليس ثمة قانون اقتصادي يشير إلى أن التقدم الرقمي سيفيد الجميع على نحو متساو. ذلك أنه بينما تتقدم التكنولوجيا إلى الأمام بسرعة، فإنها تستطيع أن تترك الكثير من العمال في الخلف. صحيح أننا نستطيع، على المدى القصير، تحسين آفاقهم كثيراً عبر الاستثمار في البنية التحتية، وإصلاح التعليم على كل المستويات، وتشجيع رواد الأعمال على اختراع المنتجات والخدمات والصناعات الجديدة التي ستخلق وظائف جديدة. غير أنه بينما نقوم بذلك، علينا أيضاً أن نشرع في الاستعداد لاقتصاد أكثر إنتاجية من أي وقت مضى تغذيه التكنولوجيا، ولكن ذلك قد لن يحتاج إلى قدر كبير من العمالة البشرية. والأكيد أن تصميم مجتمع صحي وسليم لمواكبة مثل هذا الاقتصاد سيمثل التحدي الكبير، والفرصة العظيمة، بالنسبة للجيل المقبل. ولذلك، علينا أن نعترف بأن الرحلة القديمة - رحلة الإحصائيات المترابطة - قد انتهت وأن نبدأ التفكير بشأن ما نريد من الرحلة الجديدة أن تكون عليه. إيريك برينجولفسون أستاذ بمعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا ومدير مركز التجارة الرقمية بالمعهد آندرو ماكافي باحث بمعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا _ _ _ _ _ _ _ _ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»