كان اختيار وتثبيت اليوم الوطني، أو أيٍ مِن أعياد الدَولة، خلا الأعياد الدينية، تذاع كقرارات عبر الأسواق، في ما مضى، وعبر الإذاعة في العهود اللاحقة، لا تخضع لنقاش أو تبادل رأي، فترى عيد الجمهورية استبدل بعيد التَّتويج، بعد 14 يوليو 1958. أما العيد الوطني فصار يوم 17 تموز 1968 وهو يوم تسلم «البعث» للسُّلطة، مع استمرار اليوم الأول عيداً للجمهورية، وظل الحال كما هو عليه حتى التاسع مِن أبريل 2003، فمِن هذا التاريخ بدأت المعضلات: أي علم يُرفع، وأي نشيد يُقرأ، وأي عيد وطني يعلن؟! فالقوم غير متفقين، وها هي عشر سنوات وما زال كلُّ شيء مؤقتاً، ما عدا الدُّستور، وهو الآخر «كان أكبر مُشكلِ »! كانت بغداد، ومنذ القِدم، تشهد عيداً بتنصيب خليفة، أو طهور ابن الخليفة، أو شفاء الزَّعيم (دليل الجمهورية العراقية) أو ميلاد القائد إلخ، لا اختيار في ذلك، والشُّعراء جاهزون لإحياء المناسبات. فهذا جمال الدِّين علي المُخرمي (ت 646 هـ) - يمكن الإشارة إليه بشاعر البلاط مع المستنصر بالله (ت 640 هـ) وولده المستعصم بالله (قُتل 656 هـ)- الذي قال عند نقل رفاة المستنصر مِن مدفنه بدار الخلافة إلى التربة بالرصافة، وكانت الريح هائجة: «تحرَّكت الرِّياح الهوج لما/أرادت كعبة الجود ارتحالا/ وقالت: مَن يُعلمني سَخاءً/ أهبُ به ويغمركم نَولا/ فقلتُ لها: خليفته المُرجَّى/ إمام العصر، فانقلبت شمالا»(الحوادث الجامعة). هذا ولم أجد تزلفاً مثل قوله وهو يصف غراباً أبيض أُهدي لآخر خلفاء بني العباس: «وما لون الغُراب بياض شيبٍ/ولكن نُور عدلك يا إمامُ"(المصدر نفسه). على أية حال، تداولت الحوادث على بغداد، ولعلها أكثر المدن داستها سنابك خيل الغزاة لأنها عاصمة، ومَن يريد أن تكون له الخطبة وخراج العِراق النَّفيس لابد أن تطأ أرضها سنابك خيله. فالفاطميون بالمغرب ومصر (280- 567 هـ)، لم يشعروا باكتمال مُلكهم إذا لم يعلو اسم خليفتهم في سمائها، فتكاثرت المناسبات عليها عبر التَّاريخ مِن يوم الخليفة إلى جلوس السُّلطان العثماني فعيد التَّتويج الملكي إلى آخره. مرت مناسبات عديد على العِراق يصعب الاتفاق على الغالب منها كعيد وطني، سنأتي بالأبرز مِنها: إصلاحات مدحت باشا (اغتيل 1884) وتنظيم العِراق إدارياً في الثَّاني مِن يونيو 1869، يوم جُمع به العِراق مثلما هي حدوده الآن، وبسناجق (محافظات) عشرة آنذاك: بغداد، شهرزور (كركوك وتتبعها أربيل)، السُّليمانية، الموصل، الدِّليم (الأنبار)، كربلاء، الدِّيوانية، البَصرة، العمارة (ميسان)، المنتفك (النَّاصرية)، فهي فكرة أن يكون ذلك اليوم عيداً وطنياً، لكن الاعتراض أن العِراق كان محتلاً مِن قِبل العثمانيين والوالي ليس عراقياً، أذكر ذلك استباقاً، وإلا الفكرة تستحق النقاش. بعده، هل يصلح يوم سقوط الدَّولة العثمانية 11 مارس 1917، وخروج آخر والي تركي مِن بغداد، عيداً وطنياً؟! وهنا الاعتراض سيكون صارخاً، وهو أن إزاحة العثمانيين تمت على يد الإنجليز، وبهذا يسقط مِن الخيارات. وننظر في يوم 30 يونيو 1920 وهو إعلان الثَّورة المسلحة على الإدارة البريطانية، إلا أن هذه الثَّورة عليها خلاف، وأن أغلب زعمائها تراجع وقَبل بالإدارة البريطانية بشكل آخر، وبالجملة هناك مَن يراها غير موفقة. بعدها يأتي يوم تشكيل أول حكومة عراقية: 27 أكتوبر 1920 لكنها حكومة الإنجليز، فلا يصلح هذا اليوم عيداً وطنياً. سأقفز إلى يوم 29-30 أكتوبر 1936 عندما قام الضابط بكر صدقي (اغتيل 1937) بانقلابه الذي أدى إلى قتل أحد أبرز مؤسسي الدَّولة العراقية جعفر العسكري، غير أن هذا اليوم مختلف عليه لتدشينه الانقلابات العسكرية. بعده يُطرح الأول مِن أبريل 1941 يوم قام رشيد عالي الكيلاني (ت 1965) والعقداء بانقلاب هو الثَّاني مِن نوعه في العهد الملكي، وعُرف بحركة مايس (مايو) مع أن الانقلاب وقع في أول أبريل، فهو الآخر لا يصلح أن يكون يوم الوطن لأنه استبدل ألمانيا ببريطانيا، وأدى إلى أزمة عاصفة بالبلاد. هناك مَن يرى أن يكون 14 يوليو 1958 هو اليوم المنشود، على اعتبار أن البلاد تحولت به إلى جمهورية، وخرجت مِن حِلف بغداد، وقد وزع على نطاق واسع طلب تأييده مِن قِبل المصوتين، تصدر هذه الحملة الحزب الشِّيوعي العِراقي، لست خصماً للجمهورية وللزَّعيم عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، فهو الأنزه بين الماضين والحاضرين، إلا أنني لا أرى هذا اليوم صالحاً، ففي صباحه حدثت جريمة شنعاء وهي إبادة العائلة المالكة، ودخلت البلاد في أتون الصراعات الحزبية، وبغض النَّظر عن المحق والمبطل فيها، لكنه يوم مازال الافتراق فيه شديداً. نأتي إلى التّاسع مِن أبريل 2003 فهناك مَن أراد اعتباره يوماً وطنياً، على اعتقاد أنه يوم تحرير البلاد مِن الدِّيكتاتورية، لكن هذا اليوم تحقق بيد الأميركان، وليس هناك مِن فعل عراقي إلا التهيؤ لتسلم السُّلطة وبروح مشوهة، وقد أدى هذا اليوم إلى نهب دوائر الدَّولة وإلى ترسيخ الطائفية بمنحى غير مسبوق، والشِّقاق حوله كبير وكبير جداً، فلا يصلح أن يكون اليوم الذي نريد. إذن لم يبق أمامنا إلا يوم واحد، يمكن الإجماع عليه، ويكون للعِراق عيداً وطنياً كبقية البلدان، وهو 3 أكتوبر 1932، ففي نهاره رُفع العلم العِراقي في عصبة الأمم، وأُزيل الانتداب البريطاني الرَّسمي عن البلاد، فاستقالت الوزارة (27 مِنه)، لتشكل وزارة مستقلة أول مرة(الدَّليل العراقي 1936). سيُقال إن العراق في هذا اليوم انزل العلم البريطاني واستغنى عن المستشارين، لكنه لم يستقل، والشَّاهد في ما نظمه الرَّصافي (ت 1945): «علم ودستور ومجلس أمة/ كلٌ عن المعنى الصحيحِ محرفُ »(الديوان، الانتداب)، لكن الرَّصافي في القصيدة نفسها يشترط الخلاص مِن الإنجليز بالتبلشف، أي اتباع طريق البلاشفة السوفييت، عندما قال: «للإنجليز مطامع ببلادكم/لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا». فتلك أيام نزاع إمبراطوريات ولابد للعِراق أن يكون طرفاً، وتدريجياً صار هذا اليوم واقعاً. أقول: إن يوم رفع العلم العراقي بين أعلام الأمم كان يوماً مؤسساً، والعهد الملكي بأكمله كان عهداً مؤسساً، سنرى ذلك جلياً إذا قرأنا الحوادث بلا ضغائن واحتقانات عقائدية، فاجمعوا ريحكم عليه!