لا يكفي خروج المجلس الأعلى للقوات المسلحة من المشهد السياسي للجزم بأن مصر لن تمر، وهي في طريقها الذي لا يزال غير واضح إلى المستقبل، بمحطة أو أكثر تقترب فيها من أحد «النماذج» التي لعب فيها الجيش دوراً رئيسياً في النظام السياسي. فقد انتهى الدور السياسي الذي قام به ذلك المجلس نتيجة تنحي «مبارك»، بعد انتخاب مرسي رئيساً للجمهورية. لكن إخراج المجلس الأعلى للقوات المسلحة من المشهد السياسي المباشر لم يؤد إلى تغيير جذري في موقع العسكريين في السلطة. فقد انتقلوا من موقع القوة الأولى إلى المرتبة الثانية في خريطة سياسية لا تزال في طور التشكل. والأرجح أن أحداً لن يستطيع الانفراد باستكمال رسم هذه الخريطة رغم ما يبدو من أن جماعة «الإخوان المسلمين» تفعل ذلك الآن. وإذا صح هذا التقدير، سيكون للعسكريين دور في النظام السياسي الجديد، وربما يظلون هم القوة الثانية فيه بعد أحزاب الإسلام السياسي إذا لم تتمكن الأحزاب والتيارات الوسطية والليبرالية واليسارية، ومعها الحركات الشبابية، من توحيد صفوفها والتغلغل في قلب المجتمع. وستكون الانتخابات البرلمانية المنتظرة اختباراً تاريخياً لهذه القوى التي تُسمى مدنية، وهل ستتمكن من تحقيق توازن مع قوى الإسلام السياسي من عدمه؟ وما لم يتحقق ذلك، سيظل الجيش هو القوة الثانية فعلياً رغم ابتعاده عن المشهد السياسي. لذلك كان السؤال مثاراً في الأشهر الأخيرة عن مدى اقتراب المسار السياسي في مصر أو ابتعاده عن النماذج التي برز فيها دور الجيش بأشكال مختلفة، وعن إحدى الحالتين الباكستانية والتركية على وجه التحديد. وإذا كان السؤال عن إمكان اقتراب مصر من الحالة التركية قد طُرح بشكل أساسي بعد تنحي مبارك وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، فقد صار السؤال عن الحالة الباكستانية هو الأكثر شيوعاً بعد خروج هذا المجلس من المشهد السياسي المباشر. ولهذا السؤال وجاهته رغم صعوبة إعادة إنتاج تجربة بلد في غيره ناهيك عن استنساخها. فالوضع في مصر يختلف كثيراً عنه في تركيا وباكستان، سواء اليوم أو حين بدأ الجيش فيهما طريقه إلى السلطة السياسية. وقل مثل ذلك عن وضع القوات المسلحة في الدول الثلاث. فالجيش في باكستان وتركيا مسيس، ودوره في السلطة أساسي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أنه استولى على السلطة كاملة في البلدين مرات عدة عبر انقلابات عسكرية. أما الجيش في مصر فهو محترف وليس مُسيساً، ولم ينفذ انقلاباً عسكرياً إلا مرة واحدة عام 1952 في لحظة استثنائية كانت قطاعات واسعة في المجتمع تنتظر ثورة عجزت القوى «الثورية» عن تفجيرها بعد أن تجمد النظام السياسي وتفاقمت الأزمات الاجتماعية عقب الحرب العالمية الثانية. ويختلف ذلك عن وضع الجيش في كل من تركيا منذ عام 1923 وباكستان منذ انفصالها عن الهند. فقد نصّب الجيش التركي نفسه وصياً على المجتمع وليس فقط على الدولة وسلطتها السياسية، منذ أن نجح عدد من ضباطه الذين قادوا المقاومة ضد قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى في إنهاء احتلال هذه القوات. فصارت للجيش مكانة عظيمة مكّنت مصطفى كمال الذي حصل على لقب «أتاتورك» أو «أبو الأتراك» من إلغاء الخلافة العثمانية والهيمنة الكاملة على السلطة وتغيير طبيعة الدولة. واستمرت هذه الهيمنة لأكثر من ثمانية عقود، قبل أن يتمكن «حزب العدالة والتنمية» ذو التوجه الإسلامي من وضع حد لها معتمداً على إنجازات حكومته على المستوى الاقتصادي. أما في باكستان، فلا يزال الجيش هو القوة الأكبر فعلياً في النظام السياسي بدون نص دستوري ورغم إجراء انتخابات شبه حرة عام 2008 وتشكيل حكومة مدنية بعد ما يقرب من عشر سنوات على الحكم العسكري المباشر الذي أعقب انقلاب عام 1999. وليست هذه المرة الأولى التي يسحب فيها الجيش الباكستاني دباباته إلى ثكناته دون أن يسحب نفوذه الطاغي في النظام السياسي. ورغم اختلاف وضع الجيش في تركيا وباكستان على هذا النحو عنه في مصر، يظل القاسم المشترك في الحالات الثلاث هو وجود علاقة بين القوات المسلحة وسلطة الدولة. ولذلك يظل السؤال عن طريق مصر إلى المستقبل، وإمكان مرورها بمحطة قريبة من الحالة الباكستانية -وليست التركية- خلال هذا الطريق أو حتى في نهايته، مطروحاً ومشروعاً مادام العسكريون هم القوة الثانية في النظام السياسي. كما أن حدوث ذلك يبقى وارداً وممكناً، ومتوقفاً على أداء الرئيس مرسي وحكومته وجماعته من ناحية وعلى مدى قدرة التيارات الوسطية والليبرالية واليسارية على لملمة صفوفها المبعثرة وتحولها إلى قوة مؤثرة من ناحية ثانية. وإلى أن تبرز مثل هذه القوة، سيكون أداء مرسي وحكومته وجماعته هو المحدد الأول للطريق الذي ستمضي فيه مصر، وهل تتوقف خلاله أو في نهايته عند صيغة قريبة من التجربة الباكستانية في العلاقات المدنية العسكرية، أو أية صيغة أخرى أقل شهرة في الدراسات الخاصة بهذه العلاقات. ويدل أداء سلطة الحكم في مصر حتى الآن على إخفاقها في تحقيق إنجاز ملموس يبدأ بتحريك الاقتصاد الراكد واستعادة الأمل في انتعاش تدريجي، وفتح الباب لبناء مؤسسات مدنية قوية. لذلك فالطريقة التي تُدار بها شؤون البلاد حتى الآن تحول دون بناء مؤسسات مدنية قوية لا سبيل إليها بدون شراكة وطنية حقيقية، الأمر الذي قد يؤدي إلى دور أكبر للجيش لا يزال بعض المراقبين يتوقعونه في صورة قريبة من الحالة الباكستانية على وجه التحديد. وهذا ما ذهب إليه الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقالته المنشورة يوم 16 ديسمبر الماضي في «نيويورك تايمز». فقد رأى أن «مصر ضلت طريق الديمقراطية، وأنها ستتجه بسرعة على خطى باكستان». غير أن العلاقة بين الحكم والمعارضة في باكستان تبدو أفضل إلى حد كبير منها في مصر. ولعل هذا ما دفع الرئيس زرداري لأن يقول في 29 ديسمبر الماضي، وكأنه يرد على من يتحدثون عن اقتراب مصر من الحالة الباكستانية، إن ما أسماه «النموذج المصري» لن يحدث في بلاده. وقصد بهذا النموذج الاستئثار بالسلطة وعدم التشاور مع المعارضة، حيث قال إن «تشكيل الحكومة الانتقالية في باكستان سيتم بالتشاور مع المعارضة، لأن التعاون مع الأطراف الأخرى ضروري للتقدم». ويعني ذلك أن أصحاب «النموذج» الباكستاني، الذي يفضل كثير من المصريين «النموذج» التركي عليه، يعتبرونه أفضل مما تتجه إليه مصر الآن. وهكذا تتراجع التقديرات بشأن مستقبل مصر يوماً بعد يوم على نحو لم يكن متوقعاً قبل أشهر قليلة مضت، الأمر الذي يفترض أن يدق ناقوس الخطر والإسراع بمراجعة العوامل التي أدت إلى ذلك.