بعد أدائه القسم الدستورية يوم الأحد الماضي يكون باراك أوباما قد دشن ولايته الثانية كأحد أكثر رجال السياسة ظهوراً في وسائل الإعلام وأكثرهم حضوراً في العالم، فقد برز وجهه أكثر من 12 ألف مرة في نشرات الأخبار التلفزيونية، وبوضع اسمه على محرك البحث، جوجل، تطالعك 952 مليون نتيجة، كما أن صفحته الشخصية على الفيسبوك تحظى بأكثر من 35 مليون معجب، أما عدد المتابعين لتغريداته على موقع التويتر فيصل إلى26 مليون متابع. وفي عام 2012 اختارته مجلة «التايم» باعتباره شخصية العام، فيما أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «جالوب» إلى أن أوباما هو الرجل «الأكثر تقديراً» في العالم، وذلك للمرة الخامسة على التوالي. ولكن على رغم هذه الشعبية الكاسحة، وبعد مرور كل هذه السنوات في الرئاسة، ما زال البعض يجهل من يكون أوباما على وجه التحديد، فهناك لازمة تتكرر كثيراً مؤداها أن أوباما منفلت عن الفهم وينطوي على الغموض، والحال أن سلوكه متوقع عادة على غرار ما كان عليه بيل كلينتون. وهذا الأخير الذي تميز بتقلبه الإنساني وهو يشبه أوباما الأبطأ مع ذلك في إظهار هذا التنوع وتأكيده. ويبدو أن بعض الناس ينسون أن أوباما لم تكن لديه خبرة طويلة في إدارة الشأن العام، وأنه تحت قشرة الرجل العارف والهادئ كان يحاول دائماً فهم العديد من القضايا التي اضطر للتعامل معها. ولكن اليوم وبعد مرور أربع سنوات من ولايته الأولى بدأت تظهر ملامح شخصيته الرئاسية بوضوح أكثر مقتربة من مرحلة الاكتمال والنضوج. وقد تطلب الأمر حتى يبرز هذا النضوج والاكتمال في شخصيته الرئاسية التقاء أحد أفضل أيام مشواره السياسي مع أسوئها في رحلته الرئاسية، حيث تصادف يوم انتخابه لولاية ثانية في 6 نوفمبر الماضي مع مأساة بلدة نيوتاون وحادثة إطلاق النار. ولا ننسى أن صعود أوباما غير المتوقع إلى الواجهة جاء أصلاً نتيجة انخراطه في شبابه كناشط اجتماعي في مدينة شيكاغو، ثم قدرته العجيبة على تجنب الفخاخ السياسية التي قد تضعف حظوظه السياسية، ولذا يمكن فهم الانتخابات الثانية باعتبارها آخر تلك الفخاخ التي نجح أوباما في تفاديها. ولكن حادثة مدرسة «ساندي هوك» التي لقي فيها الأطفال حتفهم في المدرسة أعادت البعد الأخلاقي لرئاسة أوباما، وهو البعد الذي ظل غائباً في غمرة الصراع السياسي والرغبة في البقاء، بحيث يتم التركيز اليوم على إحداث هذا التوازن بين الجانبين، الأخلاقي والبراجماتي الذي تمليه غريزة حب البقاء السياسي. فقد كان 14 ديسمبر 2012، وهو اليوم الذي حدث فيه إطلاق النار في المدرسة، أحد أسوأ أيام أوباما التي خالطها فيها حزن دفين، ولكن أيضاً خالجته حسرة وندم واضحان لأنه انخرط في الحفاظ على نفسه سياسياً، لاهثاً وراء السلطة في مساع محمومة لتفادي الفخاخ إلى درجة أنه قد أهمل قضية مراقبة السلاح في الولايات المتحدة والحد من تداوله، ولكن بعد الحادثة بدأ يُظهر تصميماً أكبر لعلَّ ذلك يرضي ضميره المستيقظ، وقد يكون هذا بوحي من تربيته على يد والدته التي زرعت القيم المثالية في ذهنه، هذا بالإضافة إلى كونه هو نفسه والداً لطفلتين. وفي جميع الأحوال يدشن أوباما ولايته الثانية كرجل وسياسي جديد ليس فقط بسبب التجربة التي اكتسبها خلال سنوات رئاسته، بل أيضاً على صعيد الشخصية التي باتت أكثر نضوجاً واكتمالًا، ومن الآن فصاعداً من غير المتوقع أن تتغلب غريزة حب البقاء السياسي لديه على البعد الأخلاقي، ولا يعني ذلك أنه سيتحول إلى رجل اجتماعي يصافح الجميع كما ينصحه بذلك الخبراء، أو أنه سيتخلى عن ميوله للتفاهم مع خصومه، ولاسيما فيما يتعلق بخفض الموازنة، أو أنه سيتبنى أجندة تقدمية في عدد من القضايا مثل الهجرة والتغير المناخي، ولا يعني أيضاً أن الذين ينتقدونه باعتباره بعيداً عن الجمهور وغريباً عنه سيغيرون فجأة مواقفهم ويدركون أن خصال الرئيس هي بالأساس أميركية. ولكن سيعني نضوجه الجديد أن الرئيس سيكون أكثر ثقة في نفسه وأقدر على إظهار التطور الحاصل في منصب الرئاسة، فهو باعتباره أول رئيس أميركي من أصول أفريقية يصل سدة الحكم في الولايات المتحدة سيكون حريصاً على تكريم رموز الحقوق المدنية الذي ما كان له أن يصل إلى الرئاسة دون نضالهم، ولاسيما مارتن لوثر كينج الذي تتزامن ذكراه مع يوم تنصيب أوباما لولاية ثانية. إلا أن أوباما في الوقت نفسه لن يخرج عن الحصافة التي تميز بها في مقاربة موضوع أصوله الأفريقية، فهو نادراً ما كان يبالغ في التركيز على هويته عدا تبنيه بعض مظاهر الثقافة الأميركية السوداء من الموسيقى وغير ذلك. وفي الوقت الذي كان أوباما يستعد فيه لأداء القسم الدستوري للمرة الثانية لاحظ المقربون منه أنه كان مفعماً بالثقة، ومستعداً لبداية جديدة، وفي هذا السياق ينظر أوباما إلى رئيسين أميركيين يسعى لاستلهام تجربتهما، الأول هو فرانكلين روزفلت الذي يقتسم معه بعض أوجه التشابه، ولاسيما في خطابه التنصيبي لعام 1937، حيث كانت الولايات المتحدة خارجة لتوها من الكساد العظيم وتسعى إلى ترميم نفسها وسط الأعطاب الاقتصادية الكبيرة التي واجهتها. أما الرئيس الثاني فهو دوايت إيزنهاور الذي واجه، كما أوباما، وضعاً أمنياً معقداً وكان عليه سحب القوات الأميركية من كوريا الشمالية ووقف إطلاق النار مثلما سحب أوباما قواته من العراق ويستعد لسحبها أيضاً من أفغانستان. لكن استلهام أوباما لتجارب الغير لن يمضي به أبعد من أوجه التشابه المستنفدة، حيث سيكون عليه ملء صفحة بيضاء أخرى تمتد على مدى السنوات الأربع المقبلة بما يطبع شخصيته ويعبر عن تجربته الخاصة كرئيس لأميركا. ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ديفيد مارانيس صحفي بـ«واشنطن بوست» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»