في مثل هذا الأسبوع من العام الماضي، وإثر عودتي من العراق كتبت ما يلي في هذه المساحة: "إن زيارة العراق اليوم تذكرك بقوة بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للعنف المدفوع بدوافع سياسية الذي يمارسه العراقيون حالياً ضد الأجانب. فما كان صحيحاً بالنسبة للفرنسيين في الجزائر، والبريطانيين في أيرلندا الشمالية، والروس في الشيشان، والإسرائيليين في الضفة الغربية، صحيح اليوم أيضاً بالنسبة للأميركيين في العراق".
منذ ذلك التاريخ الذي كتبت فيه الرسالة، لقي حوالي 700 أميركي، ومثل هذا العدد بمقدار عشر مرات من العراقيين، مصرعهم. كما تصاعد معدل الهجمات اليومية من 22 هجوماً يومياً إلى 87 هجوماً، وخرجت أجزاء مهمة من البلاد عن نطاق السيطرة الأميركية. وأصبح ما كان يمثل في ذلك الوقت وضعاً مستجداً تمرداً مكتمل الأركان الآن. والمؤسف أن الولايات المتحدة لازالت تفتقر إلى الاستراتيجية السياسية اللازمة للتعرف على هذه الحقيقة، وهو ما أدى إلى الوضع الذي تجد القوات المسلحة الأميركية نفسها فيه اليوم في العراق. وهو وضع تتردد فيه تلك القوات بين الإقدام والإحجام، الهجوم أو عدم الهجوم، مما يعرض حياة الجنود الأميركيين لأخطار داهمة.
والحقيقة الصادمة هي أن العثور على طريق للخروج غير المهين من العراق قد غدا أمراً صعباً للغاية، بل إن الحقيقة هي أن هذا الطريق يكاد يكون غير موجود.
فالولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع استعمال قوتها الكاملة دون أن تلحق خسائر فادحة بالمدنيين العراقيين الأبرياء، وهو ما يتناقض مع ما أعلنته من أنها جاءت لتحريرهم. وعلاوة على ذلك لا تمتلك أميركا القوات الإضافية التي يمكن أن تقوم بإرسالها إلى العراق، لإقرار النظام من خلال التواجد المكثف في كل مكان. أما قوات الأمن العراقية فهي لم تصل بعد إلى المستوى الذي يؤهلها للاضطلاع بهذه المهمة، ولن تصل إليه قبل مرور فترة طويلة من الزمن.
إن ما نحتاج إليه الآن هو سياسة تهتم بجدية بالغة بالطريقة التي ينظر بها العراقيون إلى الأسباب التي دفعت أميركا إلى شن حرب على بلدهم، وكذلك وجهة نظرهم بشأن النوايا الأميركية. فالعراقيون يعتقدون أن السبب الأساسي الذي دفع أميركا للمجيء إلى العراق، هو وضع يدها على نفطه، وتحقيق المصالح الإسرائيلية، وتأسيس حكومة عميلة، وإرساء وجود عسكري دائم للسيطرة على العراق ومن ثم بقية المنطقة .
وعلى رغم أن تلك الاعتقادات خاطئة، إلا أننا يجب أن نعرف أنها هي التي تؤثر على سلوك العراقيين نحونا تأثيراً عميقاً. إن ما نراه أمامنا الآن هو سلسلة مأساوية من العثرات الأميركية، التي يفسرها العراقيون- وفق ما يرونه بأعينهم على أرض الواقع، بأنها دليل على نوايا واشنطن الشريرة.
فالعراقيون يقولون لأنفسهم: لو افترضنا حقاً أن النفط العراقي لم يكن هو السبب الذي دعا الأميركيين إلى المجيء إلى العراق، فما هو السبب الذي جعل وزارة النفط العراقية هي المبنى الوحيد (باستثناء المجمع النووي العراقي) الذي كانت لدى الجنود الأميركيين أوامر بحمايته من السلب والنهب؟ وإذا لم تكن أميركا تنوي تمزيق أوصال الدولة العراقية، فلماذا قامت بحل الجيش العراقي؟ وإذا لم تكن تنوي البقاء فلماذا تعمل الآن على بناء 14 قاعدة عسكرية ثابتة في البلاد؟ وإذا لم تكن تنوي التحكم في السياسات العراقية، فلماذا تقوم بتعيين رئيس وزراء ظل اسمه مدرجاً لعقدين من الزمان في كشوف ممن يتلقون مرتبات ثابتة من وكالة الاستخبارات المركزية؟
لكي تنجح الولايات المتحدة في العراق، عليها أن تعمل على تقويض كل اعتقاد من تلك الاعتقادات. وعلى الرئيس نفسه أن يؤكد بصفة رسمية، وبعبارات قاطعة أن الولايات المتحدة لن تحتفظ بوجود عسكري دائم في العراق، وأن يعمل على تكرار ذلك في كل مناسبة. ويجب كذلك شطب عبارة (قواعد دائمة) من الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي، كما يجب تبني آلية شفافة يمكن من خلالها تأكيد أن الأميركيين لن يلمسوا عوائد النفط العراقي، وأن تتم الإجابة بدقة وسرعة على كافة الأسئلة المتعلقة بالكيفية التي تم بها التصرف في عوائد بيع ذلك النفط منذ بداية الاحتلال وحتى الآن.
يجب أيضاً إجراء خفض كبير في حجم السفارة الأميركية ونقلها من المنطقة الخضراء إلى (معسكر النصر) على سبيل المثال، لإعطاء مؤشر قوي على أن الولايات المتحدة لم تعد تحكم البلد، وأنها لا تسيطر على الحكومة العراقية. ويمكن أيضاً توقيع تعهد مشترك بين الولايات المتحدة وبين جيران العراق يتعهدون فيه- جيران العراق والأميركيون على حد سواء- باحترام الحدود الحالية للعراق. ويجب على الرئيس الأميركي أيضاً أن يعمل على تغيير الاعتقاد السائد لدى الكثير من العراقيين بشأن التدخل الأميركي في الانتخابات، من خلال التأكيد دائماً وبصوت عالٍ أن الانتخابات ستجرى في الموعد المحدد، وأن الولايات المتحدة لن تتدخل لتفضيل مرشح على الآخر أو حزب على غيره.
وبخصوص الأحداث التي تتم في العراق حالياً هناك ثلاث أولويات: في الوقت ا