بعد أن أقدم هرقل على ذبح هيدرا ، الوحش المخيف ذي الرؤوس الأفعوانية التسعة، انكب البطل الأسطوري على تطوير التكنولوجيا التي باتت تحتل اليوم مكان القلب في الأزمة الدولية الراهنة التي صارت الأكثر إلحاحاً· وفي كتابها الجديد المثير الذي يسلط إضاءات ساطعة على تاريخ الحرب، تقول المؤلفة أدريان مايور : بغمس سهامه في السم الذي كان يسري في جسد الوحش(هيدرا)، قام هرقل باستحداث أول سلاح بيولوجي في التاريخ ·
وقد خرج الكتاب من المطابع يوم 29 سبتمبر الماضي بعنوان النار الإغريقية، السهام المسمومة وقنابل العقارب:الحرب البيولوجية والكيميائية في العالم القديم · والنار الإغريقية مصطلح يعني النار التي تتمتع بالقدرة على الاشتعال في الماء· أما المؤلفة فهي عالمة أميركية مستقلة متخصصة لها مؤلفات ومحاضرات ومقالات كثيرة في الوقائع التاريخية والعلمية للأساطير القديمة والفولكلور، وقد حظيت مؤلفاتها وأعمالها باهتمام واسع في الأوساط العلمية ووسائل الإعلام· وقد أسرت تلك الوسائل المخيفة التي استعان بها القدماء في حروبهم اهتمام مايور وإعجابها وفضولها، غير أن كتابها الجديد هذا الذي نعرض له هنا يقوم أيضاً باستقصاء مواقف قدماء الإغريق تجاه الأسلحة الكيميائية والبيولوجية التي ترتبط بأواصر العلاقة بما يحدث في عالم اليوم·
كانت السهام المسمومة تشكل أسلحة الرعب في العصر البرونزي· ولم تمض فترة قصيرة على قيام البشر باستحداث السهام المسمومة في ذلك العصر، كما تقول مايور ، حتى أطلقت الأسلحة السامة سلسلة لا ترحم تعاقبت فيها المآسي التي أحاقت بهرقل والإغريق- ناهيك عن المآسي التي انصبت على أهل طروادة أعداء الإغريق في ذلك الزمان·
وكان يروق لمعظم البشر في أصقاع العالم القديم أن يتبنوا المعتقد الذي يقول إنهم يخوضون القتال ملتزمين بمجموعة من قوانين الشرف؛ وهنا ينبغي أن نسمع تعليق هوميروس حيث قال: كان رماة السهام يلاقون الازدراء والاحتقار لأنهم كانوا يرمون (سهامهم) من بعيد وهم في أمان: ذلك أن القذائف الطويلة المدى كانت تعني ضمناً رفض مواجهة العدو في المدى القصير· وقد بدا أن القذائف طويلة المدى الملوثة بالسموم أكثر جبناً من ذلك بكثير · غير أن أوديسيوس ، وهو ليس بالجبان كما هو معلوم في القصص اليونانية، كان على رغم ذلك يرجع من غمار المعارك ليقتل بالسهام المسمومة من كانوا يخطبون ودّ زوجته ويلتمسون القرب منها (وهو كما تقول الأساطير ابن زيوس كبير آلهة الإغريق والمتميز بشجاعته وقوته الهائلة)·
وها هنا المشكلة والعقبة التي ما تزال حتى وقتنا الحاضر تشوشنا وتفسد حياتنا، إذ لم يكن حكام الهند القدماء، مثلاً، أقل من الإغريق انخراطاً في النزاع والصراع حول السهام الشائكة المسمومة التي تلتهب ناراً لدى انطلاقها نحو الأعداء· وتقول المؤلفة إن هذه الوسائل الحربية كانت تنتهك قوانين السلوك الهندوسية التقليدية، في نظر البراهميين (أفراد طبقة الكهنوت العليا لدى الهندوس) وأفراد الطوائف والطبقات الاجتماعية العليا الهندوسية، وكذلك في نظر قوانين مانو (وهو في المعتقدات الهندوسية المشرّع للجنس البشري)·لكن من المفيد هنا أن نستشهد بكتاب أرثاشاسترا القديم الذي ألّفه منذ أكثر من 2300 سنة الاستراتيجي العسكري البراهمي كوتيليا ، الذي خدم كرئيس للوزراء في بلاط الملك الهندي آنذاك (وهو تشاندراغوبتا ،أول إمبراطور للهند، حكم في القرن الرابع قبل الميلاد)· وفي الكتاب نقرأ أن كوتيليا أشار على مولاه الملك باستخدام كافة الوسائل الضرورية لتحقيق أهدافه العسكرية -بما في ذلك الاستعانة بالسموم القاتلة·
وتقدم مايور في كتابها هذا عرضاً بانورامياً شاملاً يحيط بتاريخ وأخلاقيات وعلوم باكورة الأسلحة البيولوجية والكيميائية؛ وفي عملية تمشيط فائقة المهارة للنصوص القديمة، تقدم لنا وصفاً وافياً لمختلف الثقافات والحضارات القديمة المتنوعة، كالحضارة الصينية مثلاً، وتقدم صورة دقيقة للأسلحة الكيميائية التي استعان بها الصينيون، وكان من بينها الرماح النارية الكيميائية و الأبخرة السامة· وتقدم مايور في سياق عرضها هذا أدلّة تؤكد أن معظم الحضارات قد ابتكرت فعلاً أسلحتها غير المألوفة-كما تقدم صورة للجدل الذي دار فيها حول استخدام تلك الأسلحة·
وكانت السهام وقاذفات اللهب أسلحة ميدان المعركة في الزمان الغابر، غير أن العالم القديم كانت فيه أيضاً إلى جانب ذلك أمثلة على استخدام البشر للأسلحة البيولوجية ضد جموع السكان· ويعود تاريخ استخدام وسائل الإبادة الجماعية هذه إلى عام 1500 قبل الميلاد، عندما قام الحثيون بإرسال ضحايا الطاعون إلى أراضي أعدائهم· وقد قدم العالم القديم تمييزاً وتفريقاً له ما له من الأهمية ليضع حدوداً ما بين استخدام الأسلحة المرضية لأغراض دفاعية بحتة وما يدعى بـ الضربات الأولى · لكن على رغم أن هذا التقييد تتأصل جذوره على نحو جزئي في الأخلاق، نجد مايور تقول إن ذلك يعكس أيضاً فهماً كبيراً يحيط إلى حد ما بعلم الأوبئة، وهنا تقول: إن من الممكن ا