أن يصبح الحاكم هماً لكل مواطن، لمؤيديه ومعارضيه على السواء، يعني أن البلاد والمجتمع أصبحا في خطر، بلا حصانة أو مناعة. وعندما تكون مصر في مثل هذه الحال يتعمم الخطر تلقائياً. المشكلة لم تبدأ في الثلاثين من يونيو 2013، بل قبل عام، لحظة تسلم «الرئيس المنتخب» مهماته وهو يضمر عكس ما وعد به، وحين وعد استقطب أصواتاً لم تكن له وإنما جاءت مضطرة واعتبرته «الأفضل» بين خيارين سيئين. لكنه لم يعد كذلك. فقد الأفضلية. دفع المراهنين عليه إلى الندم حتى على النظام السابق الذي سعوا جميعاً إلى التخلص منه. رفع الموالون شعار «الشرعية خط أحمر»، وهذا قولٌ حق، لكن كيف لحاكم منتخب أن يبرهن سريعاً أنه لا يعرف مجتمعه، أنه جاء ليحكم المجتمع الذي يتخيّله ويريد أن يغيّره ليتناسب مع تصوّره المسبق. ما قيمة «الشرعية» وما معناها عندما يقع الخطأ الجسيم، أي عندما ينسى الحاكم أنه نال فقط نصف الأصوات... وهذا في حد ذاته يرتّب عليه مسؤولية حاسمة. إذ أن التفويض الشعبي-«الشرعي» أبلغ إليه رسالة واضحة: لا يمكنك أن تحكم وحدك، لا يمكن لحزبك أن ينفرد، لا يمكنك أن تتجاهل واجب المصالحة الوطنية، ولا يمكنك أن تفرض إرادتك على المجتمع. في البداية كانت الإساءات تؤخذ كأخطاء من ليست لديه خبرة، في ما بعد صارت الإساءات مدروسة ومتعمدة وتبين أنه يراد للأخطاء أن تكون هي القواعد الجديدة. طوال العام المنصرم تراكم سجل ضخم من السياسات العشوائية، حتى الدستور لم ينج منها، ومن يعبث بالدستور يصعب ائتمانه على أي من القيم أو المؤسسات، والأهم يصعب ائتمانه على المستقبل. غدا التملص من استحقاق المصالحة توظيفاً للانقسام من أجل تحقيق المآرب الخاصة: «الأسلمة»، «الأخونة»، التسلط، إخضاع الحكم لمكتب الإرشاد في جماعة «الإخوان المسلمين». ولأن الخطأ يجرُّ الخطأ، أتيح أخيراً أن نشهد ذروتين: الأولى، إعادة القاتل إلى مسرح جريمته في الأقصر ليكون هذه المرة برتبة «محافظ» وحسناً فعل إذ استقال. والثانية، أن ينزل الرئيس إلى مستوى مخاصمة أشخاص وأن يسميهم ويشهّر بهم كما لو أنه يحلل دمهم. وقد سبقه العديد من المتأسلمين متبرعين بفتاوى (لا تستحق أبداً هذه الصفة) تجيز بل تحرض صراحة على قتل المعارضين. ثلاث مؤسسات استطاعت أن تحافظ على رمزيتها الشرعية رغم ضغوط الحكم طوال العقود الماضية: القوات المسلحة، القضاء، والأزهر. وقد اجتهد الحكام السابقون في التلاعب بهذه المؤسسات أو التحكم بها وإخضاعها، وكلما نجحوا فيها كلما خسروا، لكنهم رغم كل شيء حافظوا على حد أدنى من الحصانة لها. أما «الإخوان» فيرون أن مستقبل «دولتهم» يتوقف على مدى سيطرتهم على هذه المؤسسات. نسوا كل ما كانوا يقولونه أيام المعارضة، وما يواصلون قوله وينسبونه إلى روح «الثورة» وطموحاتها. ذاك أن التهافت الاستحواذي أفسد ما تبقى من روابط بينهم وبين الثورة وشبابها، فأصبحوا يتجاهلون أن الجيش والقضاء والأزهر دعائم أساسية لمصر وليست أدوات في أيديهم يوظفونها في ما يسمونه «التمكين». من الواضح أن الإسلام الوسطي الذي يمثله الأزهر لا يعجب «الإخوان». يعرفون أنه يعكس إسلام المجتمع المصري ووسطيته، لذا لا يرون مصلحة في الاعتراف بحقيقته هذه. يريدونه بوقاً ينقل رغبات مكتب الإرشاد. ورغم أنه أيد دعوة الرئيس إلى الحوار واعتبرها فرصة ينبغي انتهازها، إلا أن حثه على اليقظة حتى لا تنزلق البلاد إلى «حرب أهلية» جوبه بنقد «إخواني» شديد، لأن الموالين اعتبروا أن 30 يونيو ليس حدثاً بل يوماً عادياً. لعل أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي حاكم أن تنعدم الثقة بينه وبين معارضيه إلى حد انتفاء الجدوى من أي حوار. واللافت أن الرئيس اقترح لجنة للمصالحة بلهجة فئوية منفّرة، حتى أنه في إشارته إلى الأقباط وكنيستهم لم يكن تصالحياً على الإطلاق. الواقع اليومي المأزوم في مصر يصفع الأنظار، ومع ذلك تأتَّى للإخوان أن يقرروا الانفصال عنه، ربما لأنهم يحتشدون في شارعهم وبالتالي يصنعون لأنفسهم واقعاً آخر. لكن المسألة لم تكن في الشارع وإنما في قصور الحاكم وأشخاصه ورؤيته. بعيداً عن صحب الميادين المتنافسة، يدرك «مكتب الإرشاد» (الحاكم) أن هناك مشكلة فعلية، ومن الواضح أنه يفضل المواجهة في الشارع، حتى لو كانت دموية، على التنازل من أجل المصلحة والاستقرار. وهو، بذلك، يدفع دفعاً إلى الاحتكام للجيش، ظناً منه أن حياد الجيش -ولو متدخلاً- سيكون في النهاية لمصلحة «تمكين الإخوان».