لماذا افترقت السبل بالدول الآسيوية التي حققت تقدماً سريعاً والدول التي فشلت في اللحاق بالركب؟ المراقب للوضع الاقتصادي في آسيا يقسم البلدان إلى منطقتين جغرافيتي، الأولى تضم دول شمال شرق آسيا (مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان) التي حققت قفزة مهمة، والثانية دول جنوب شرق آسيا (مثل أندونيسيا وتايلاند والفلبين) التي لم تحقق نفس النجاح وظلت متأخرة عن نظيراتها في الشمال. ذلك السؤال يجيب عنه الخبير الاقتصادي، جو ستادويل، في كتابه «كيف تتقدم آسيا... النجاح والفشل في أكثر مناطق العالم ديناميكية». ولعل ما يميز هذا الكتاب أن مؤلفه لا يتردد في طرح الإشكالات التي يرى أنها المسؤولة عن هذا التباين في المسار الاقتصادي بين دول شرق آسيا وشمالها وجنوبها. ووفقاً له فقد فشلت دول جنوب شرق آسيا في استيعاب دروس التاريخ، وهي بدلا من اتخاذ طريق متدرج يتفاعل مع المنجزات الحضارية والتكنولوجية والانطلاق من الخصوصيات الذاتية، اتبعت وصفات المؤسسات الدولية التي أثبتت التجربة أنها كانت كارثية، وما الأزمة الاقتصادية التي ضربت النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي سوى دليل على فشل توصيات صندوق النقد الدولي وما يُعرف بإجماع واشنطن القائم على سياسات الليبرالية الجديدة في انتشال الدول من الفقر إلى الغنى ونقلها من التخلف إلى التقدم. فقد ركزت السياسات النيوليبرالية على تحرير الاقتصاد بما في ذلك التخلي عن دعم الصناعات الوليدة، وهو أمر لا يناسب دولا مازالت تتلمس طريقها على سلم التنمية. وبدلا من تلك السياسات الفاشلة التي لم تراع الشروط الموضوعية لدول آسيا، وسعت إلى فرض نموذج غربي دون اعتبار للفرق التاريخي في التجربتين التنمويتين، يوصي ستادويل البلدان الفقيرة بتقليد نموذج «بارك تشانج» في كوريا الجنوبية. فالرجل القوي الذي أشرف على المعجزة الكورية، كان دائماً يقول: «أدلوا بتصريحات علنية تتحدث عن أهمية الأسواق الحرة ثم قوموا سراً بدعم الشركات وتوجيه الاقتصاد»، فالسياسات الليبرالية لا تفيد في سياقات الدول الناشئة التي تحتاج إلى دعم قطاعها الصناعي وتحفيزه ليصبح منافساً على الساحة الدولية، أما التخلي عنه بدعوى وقف تدخل الدولة في الاقتصاد واحترام قواعد المنافسة العالمية، فذلك لا يجدي إلا عندما يشتد عود الدول وتصبح نداً حقيقياً لنظيراتها في الغرب. وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وحتى الصين بعد ثلاثين سنة من السياسة الاقتصادية الماوية، وكانت وراء نجاحها، وهي خطوات من ثلاثة أجزاء أثبتت فاعليتها في دفع البلدان التي انتهجتها إلى الأمام؛ أولها الإصلاح الزراعي الذي قامت بموجبه الدولة بإعادة توزيع الأراضي الزراعية ووضع حد لنظام الإقطاع الذي استأثر بالمساحات الواسعة دون تحقيق الإنتاج المطلوب، والنتيجة أن هذه البلدان حققت اكتفاءها الذاتي واستغنت عن الاستيراد الذي كان يستنزف احتياطاتها من العملة الصعبة. وفي الخطوة الثانية لجأت الدول الآسيوية الناجحة إلى اعتماد التصنيع طريقاً لتحقيق النمو والخروج نهائياً من دائرة الفقر، وهو ما تؤكده الفروق بين الصين والهند، فبينما انتهجت الصين سياسات تصنيعية موجهة للتصدير ودعمت الشركات الوطنية بأن حفزتها على غزو الأسواق العالمية، فضّلت الهند الاعتماد على قطاع الخدمات، وتحديداً تكنولوجيا المعلومات الذي لا يشغل سوى بضعة ملايين. لكن الصناعة التي يوصي بها الكاتب هي تلك التي تقودها نخب غير مرتبطة بعلاقات الريع مع الدول التي لا تكتفي بتلقي الامتيازات دون الانخراط في استثمارات داخل البلد، فدعم الدولة للقطاع الصناعي لا يأتي دون شروط يكون على رأسها التصدير والقدرة على المنافسة، لذلك فإن دولا مثل كوريا الجنوبية أعدمت عدداً من الشركات فقط لأنها فشلت في تصدير منتجاتها. أما الخطوة الثالثة فتتمثل في السيطرة على القطاع المالي وتحكم الدولة في دواليبه. فالدولة هي من تحدد أسعار الفائدة، وبإبقائها منخفضة استفادت دول شمال آسيا في فترات انطلاقها الأولى من القدرة الادخارية الكبيرة للمواطن الذي ليس أمامه سوى البنوك الخاضعة للدولة لوضع مدخراته. ولأن سعر الفائدة متواضع، تستطيع الدولة إعادة تدوير الأموال المستقرة في البنوك واستثمارها في الصناعة. والخلاصة أن الكتاب يعلي من التجربة الاقتصادية لدول شمال آسيا لأنها انطلقت من سياقاتها المحلية ولعبت فيها الدول أدواراً طلائعية في دعم وتعزيز القطاعات الاقتصادية، وكأن لسان حاله يقول: إن استقلال القرار الاقتصادي وعدم الخضوع لإملاءات وتوصيات المؤسسات المالية هو السبيل لتحقيق التقدم، مفنداً الفكرة السائدة والخاطئة القائلة بأن الدول تستطيع التقدم دون المرور بمرحلة التصنيع، الأمر الذي تدحضه تجربة الصين واليابان وكوريا الجنوبية. زهير الكساب الكتاب: كيف تتقدم آسيا... النجاح والفشل في أكثر مناطق العالم ديناميكية المؤلف: جو ستادويل الناشر: منشورات جروف تاريخ النشر: 2013