كان واحداً من أهم المبررات التي ساقتها الإدارة الأميركية الحالية والخطاب المساند لها على مستوى مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وبعض كبار الكتاب في الموقف من دعم حركات الإسلام السياسي للوصول للحكم في بعض الدول العربية المنتفضة منذ مطلع 2011 يكمن في رؤية تقول إن التحالف مع الإسلام السياسي هو السبيل للقضاء على الإسلام المسلح، بمعنى أن التحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» هو سبيل أميركا والغرب للقضاء على شرور تنظيم «القاعدة». لم يزل موقف الجيش المصري والأجهزة الأمنية تجاه العنف «الإخواني القاعدي» الجديد بمصر موقفاً متئداً وغير متسرع وربما كان هذا أمراً يستحق الاهتمام، فمع حجم الشحن الديني المتطرف الذي تتبعه الجماعة منذ سقوط حكمها بمصر وحجم العنف المتصاعد جرّاءه ما قد يدعوها للمزيد منه حتى يتضح للقوى السياسية والتيارات الشعبية داخل مصر ولدول العالم ومنظماته ومؤسساته الحقوقية والسياسية والإعلامية مدى بشاعة هذه الجماعة واسترخاصها للدماء وتجذر الآيديولوجيا العنيفة لدى قياداتها وكوادرها على حدٍ سواء. ليس أسوأ من الخطأ سوى الإصرار عليه، والولايات المتحدة الأميركية بمبعوثيها الذين يتوافدون على القاهرة لحماية والدفاع عن جماعة «الإخوان المسلمين» إنما تصرّ على خطأ رؤيتها لجماعات الإسلام السياسي على الرغم من كل ما أظهرته الجماعة من انحياز للعنف. عودة سريعة للماضي تظهر أن جماعات العنف الديني التي تفشّت بمصر في السبعينيات لم تكن إلا وليدةً لخطاب جماعة «الإخوان المسلمين»، والأمر ذاته ينطبق على الجماعات التي أخذت من أفغانستان مقراً للتدريب على القتال بغرض العودة للبلدان ونشر العنف فيها في الثمانينيات، فعبدالله عزّام «إخواني» عتيد وأسامة بن لادن «إخواني» معروفٌ وأيمن الظواهري هو أحد رموز «تنظيم الجهاد» في السبعينيات وكلاهما تلميذ لـ«الإخوان»، وما العداوة التي ظهرت للعلن بين «الإخوان» و«القاعدة» في بعض الفترات إلا بحكم القرب والتشابه لا بحكم التنافر والاختلاف. وفي التسعينيات، انتشرت جماعات العنف الديني من جديد بمصر، كـ«الجماعة الإسلامية» وجماعة «الجهاد» ونحوهما، وهم تلاميذ خطاب جماعة «الإخوان» وخريجو مدرستها، ولا أدل على ذلك من التحالف العميق، الذي أبدته الجماعة الإسلامية مع «الإخوان» قبيل وبعد سقوط حكم الجماعة بمصر، والأهم من هذا كله أن ما يجري اليوم أثبت للمراقبين في العالم العربي وفي الغرب أن الإسلام المسلح -كما كتب كاتب هذه السطور من قبل- كان ينمو ويكبر تحت حكم الإسلام السياسي. ليس مصادفةً على الإطلاق أن يتزامن سقوط حكم جماعة الإخوان مع تصعيد «القاعدة» لعملياتها الذي تنبئ عن جديته وخطورته الإجراءات التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا لحماية سفاراتها في العشرات من دول المنطقة، ولا أن تتزامن تهديدات الظواهري مع التصعيد المتطرف الذي يقوده يوسف القرضاوي ويردده «إخوان» الخليج. لا أحد يرضى بالدماء بمصر، وكل سبيل لاجتنابها هو سبيل أفضل، ولكن الواجب على المصريين ليس تأخير مواجهة العنف والتطرف أو مساومتهما، بل حسم مادة العنف من الأساس، والإصرار على ألا تعود الأمور من جديدٍ لتجريب المجرب في تخريب المخرّب. من الجدير رصد بعض التناقضات في المشهد الحالي، فحين هيّجت جماعة «الإخوان» التنظيم الدولي التابع لها في كل البلدان التي لها فيها وجود علني أو مستتر ضد الشعب المصري وضد إرادته فقامت قيامتهم وعلا نواحهم، كان كثير منهم ينحي باللائمة على أميركا باعتبارها العدو الصليبي بينما الإدارة الأميركية هي التي دعمت وصولهم إلى الحكم ولم تزل وفودها وتصريحاتها تعلن دعمهم والدفاع عنهم وحمايتهم، ولولا الإرادة القوية للحكم الجديد في المرحلة الانتقالية الحالية والدعم الشعبي العارم، لما خرجت بعض التصريحات الأميركية التي تقر بشيء من الواقع وتسعى للوساطة. عن عمدٍ وتخطيطٍ اتجهت جموع «الإخوان» إلى مدينة الإنتاج الإعلامي بغرض اقتحامها تحت شعاراتٍ دينيةٍ متطرفةٍ تتحدث عن فريقين مسلم وكافر، مؤمن ومنافق، ولولا تصدي قوات الأمن لهم لصنعوا الأعاجيب، وقد سقط عشرات الجرحى جرّا الفوضى التي صنعوها على أعينهم، وهو أمرٌ ستستمر فيه الجماعة ما لم تخضع وتقرّ بالوضع الجديد أو تتجه لمزيدٍ من العنف والتخريب. إن ازدهار جماعات العنف الموالية لتنظيم «القاعدة» في سيناء مرتبطٌ في مساره صعوداً وهبوطاً بمصالح الإخوان المسلمين منذ 2011 وحتى اليوم فكلما كانت الجماعة في موقع تفاوضٍ مع المجلس العسكري السابق كانت جرائم تنظيم «القاعدة» في سيناء تتزايد وتتصاعد، وكلّما تحصلت الجماعة على مكاسب ومصالح كلما هبطت تلك العمليات والجرائم، وليس أدل على هذا الارتباط من التهديد الذي قدّمه محمود البلتاجي من رابعة العدوية حين قال إنه بمجرد عودة الرئيس «المعزول» مرسي سيتوقف العنف في سيناء، وهي مساومة تظهر مدى الترابط بين الطرفين. ثمة شعور متزايد لدى الحكم الجديد بمصر ولدى الجيش المصري ولدى شرائح كبيرة من القوى السياسية والتيارات الشعبية بأن الولايات المتحدة تفتش عن مصلحة جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما عبّر عنه بمرارة وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي في حواره مع صحيفة «واشنطن بوست» حين قال للأميركيين: «لقد تركتم المصريين وأدرتم ظهركم للمصريين، ولن ينسوا لكم ذلك» وأضاف «أتريدون الآن مواصلة إدارة ظهركم للمصريين؟». وهو قال أيضاً عن العلاقات الحميمة بين جماعة «الإخوان» وأميركا «إن الولايات المتحدة تمتلك الكثير من النفوذ والتأثير على جماعة الإخوان المسلمين»، وتحدث بما لا يمكن لأي مراقبٍ أن ينازعه فيه عن فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي بأنه «لم يكن رئيساً لكل المصريين، بل كان رئيساً يمثل أتباعه وأنصاره» أو «أهله وعشيرته» كما هو تعبير مرسي الشهير. إن جماعة «الإخوان» مثلها مثل تنظيم «القاعدة» لم تعترف بالأوطان يوماً بل هي جماعة أممية لا تعترف بالدولة الحديثة ولا ولاء لديها للأوطان بل ولاؤها واجتهادها وكل ما تأتي وتذر إنما هو منصبٌ على نشر تنظيمات الجماعة في كل مكانٍ استطاعت الوصول إليه وتأمين مصالحها ولو كانت ضداً لمصالح الأوطان وهي غالباً ما تكون كذلك، والأدلة والشواهد من كلمات مرشدي الجماعة منذ المؤسس حسن البنا مروراً بالهضيبي وصولاً لعاكف وبديع كلها صريحةٌ في رفض الوطنية والانحياز للأممية «الإخوانية». أخيراً، جدير بالاستحضار هنا ما كانت العرب تقوله في المثل المعروف، كيف أعاودك وهذا أثر فأسك!