بسبب الأحداث المتلاحقة التي تمر بها مصر هذه الأيام منذ إزاحة الإخوان المسلمين من السلطة، تراجعت قضية الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول مياه النيل إلى مرحلة متأخرة من اهتمامات وسائل الإعلام العربية والعالمية، لكن قضية النزاع بين الطرفين حول سد النهضة الذي تقيمه إثيوبيا لحجز مياه النيل المتدفقة من بحيرة تانا تثير جدلاً واسعاً حول الحقوق الشرعية والسياسية لكلا الطرفين. وضمن السياسة البنائية التي تحيط بالموارد الوطنية للمياه، فإن الواجب الأول للحكومات هو الدفاع عن حقوق شعوبها المائية، وفرض تلك الحقوق على الحكومات الأخرى، وانتزاع الاعتراف بها، ومن ثم تحقيقها في الواقع العملي. وفي سياق الحديث عن حقوق مصر في مياه النيل، لابد من التوضيح بأنه طرأ تحول في نظام العلاقات الدولية في حوض النيل منذ وفاة جمال عبدالناصر ومن بعده أنور السادات، فيما يتعلق بقدرة مصر على الحفاظ بحقوقها في مياه النيل، وزادت حدة ذلك التحول منذ انتهاء الحرب الباردة وخروج النفوذ السوفييتي من مناطق حوض النيل بحيث أن ذلك سرع من وتيرة تدهور النفوذ والموقف المصري في أفريقيا بشكل عام، وفي دول منابع النيل بشكل خاص. لقد زاد ذلك من تشدد موقف إثيوبيا بشكل محدد تجاه اتفاقية عام 1923 التي تحدد حصة مصر من مياه النيل. بالنسبة للمراقب الخارجي لعلاقات دول الحوض ببعضها بعضاً، ربما يمكن ملاحظة ذلك التحول، ولكن بالنسبة للخبراء من أهل حوض النيل، فإن التحركات التي تقوم بها دول المنبع تؤثر كثيراً كودنها ستؤدي إلى نقص المياه المتدفقة إلى دول المصب وهي مصر والسودان، وهي تحولات ربما تصبح زلزالية وكارثية وغير مسبوقة في تاريخ وادي النيل. وبغض النظر عن التغيرات الحاصلة في نظام العلاقات الدولية الإقليمية بسبب التغيرات التي تلم حالياً بمصر والسودان، فإن الكيانات الوطنية المتصارعة حاليا على مياه النيل لا تزال في المرحلة الأولى من الدفاع عن حقوقها المائية، وتوجد مؤسسات قليلة لدى كافة الأطراف لتحقيق وجهات نظرها المتصارعة. إن الحقيقة التي يجب الانتباه لها جيداً من قبل مصر والسودان هي أن إثيوبيا واحدة من دول المنبع الرئيسية التي تقع في أراضيها بحيرة تانا التي تغذي النيل الأبيض بأهم مصادره من المياه، وهذه الحقيقة لها تأثيرها الذي يجعل من إثيوبيا ميالة لاتخاذ المواقف الحاسمة. من المعلوم أن الأعمال الهندسية التي تجري على الأراضي الإثيوبية حالياً، والتي ستجري مستقبلاً، لابد وأن يكون لها تأثيرها الكبير على معدل المياه المتدفقة إلى دول المصب. وربما أن السودان سيحصل على بعض الفائدة من المشاريع الإثيوبية أهمها حصول المناطق السودانية المتاخمة للحدود الإثيوبية على الطاقة الكهربائية، وانخفاض نسبة كثافة الطمي ضمن المياه المتدفقة نحو أراضيه، والتي سيحجزها سد النهضة خلف أسواره ويقلل كثيرا من النسبة التي تطمر الأراضي الزراعية السودانية الخصبة. خاتمة القول إن مشكلة النزاع حول مياه النيل ستكون شائكة جداً في القادم من السنوات، ولن يتمكن أي طرف من حلها بوسائله الخاصة، وبالتحديد عن طريق القوة العسكرية. إن الحكمة الأزلية تشرح لنا كيف أن دول العالم كانت قادرة دائماً على الدفاع عن مطالبها في المياه المشتركة التي يوجد حولها مواقف متطرفة ثابتة، وكيف أن مصالحها الاقتصادية في المياه قابلة للتحقيق ليس عن طريق المواقف المتشنجة تجاه الدفاع عن تلك الحقوق، ولكن عن طريق المعالجات الهادئة لكافة المطالب ضمن نظام التحاور الدبلوماسي والتجاري العالمي.