قليلة هي المركبات الكيميائية التي أصبحت ترتبط بالعديد من أمراض العصر الحديث، رغم أنها في الأصل مادة غذائية ضرورية للاستمرار في الحياة، كما هو الحال مع الكوليسترول. لقد أصبح هذا المركب المعقد، والمنتمي لمجموعة الدهون، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأهم أسباب الوفيات حالياً بين أفراد الجنس البشري، وبالتحديد أمراض القلب والشرايين، وما ينتج عنها من ذبحة صدرية، وسكتة دماغية. ومؤخراً تزايدت وتيرة الدراسات التي تربط بين ارتفاع مستوى الكوليسترول في الدم، وبين مجموعة أخرى من الأمراض التي تحتل أيضاً مكانة مرموقة على قائمة أسباب الوفيات، أو الأمراض السرطانية. آخر تلك الدراسات نشر في العدد الأخير من إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Science)، وأظهرت نتائجها أن أحد المركبات العضوية، الناتجة عن العمليات الأيضية المرتبطة بالكوليسترول داخل الجسم، يغذي ويدعم نمو وانتشار الأنواع الخطيرة من سرطان الثدي. وهو ما قد يفسر العلاقة المعروفة بين زيادة الوزن والسمنة وبين زيادة احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية، ويفتح الباب لفكرة تناول الأدوية والعقاقير المخفضة لمستوى الكوليسترول في الدم، والمعروفة بمجموعة «الستاتينات»، كإجراء وقائي ضد الإصابة بالسرطان. لكن قبل أن نتطرق لهذا الجانب المثير حول الكوليسترول، يجب أن نتوقف قليلاً عند أهميته كمادة أساسية وضرورية للحياة في الحيوانات، بسبب دوره الهام في بناء الجدران الخارجية للخلايا، والحفاظ على سلامتها، بالإضافة إلى دوره داخل الخلية نفسها، خصوصاً على صعيد عمليات نقل وتبادل المواد العضوية داخل الخلية، وتوصيل وتبادل الإشارات الكيميائية والعصبية. ويلعب الكوليسترول دوراً هاماً كذلك في عملية الهضم وامتصاص الغذاء والفيتامينات، حيث يقوم الكبد بتحويله إلى ما يعرف بالعصارة الصفراء التي تُختزن في الحويصلة المرارية. وتقوم هذه العصارة بما تحتويه من أملاح بالمساعدة على إذابة وتحلل الدهون التي نتناولها في غذائنا، مما يمكن الجسم من امتصاص الدهون، بما في ذلك مجموعة الفيتامينات المرتبطة بالدهون (A, D, E, K). ويعتبر الكوليسترول أيضاً المركب المبدئي الذي تشتق وتصنع منه العديد من المركبات العضوية الهامة داخل الجسم، مثل فيتامين(D)، والهرمونات الاسترويدية، مثل هرمونات الغدة الكظرية الموجود فوق الكلى، كهرمون الكورتيزول، وهرمون الآلدوستيرون، بالإضافة إلى الهرمونات الجنسية ومشتقاتها، مثل هرمونات البروجيتسيرون، والآستروجين، والتيستيرون. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أن الكوليسترول ربما يلعب أيضاً دوراً كمادة مضادة للأكسدة، تحمي الخلايا من التأثير الضار للجذور أو الشقائق الكيميائية الحرة. لكن كيف يمكن لمادة تؤدي كل تلك الوظائف الحيوية، وتلعب دوراً هاماً في الاستمرار في الحياة، أن ترتبط باثنين من أكبر قتلة البشر؛ أمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية. إجابة هذا السؤال تكمن في المثل الشائع: إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده. فالشخص الذي يزن 68 كيلوجراماً مثلاً، يحتوي جسمه على 35 جراماً من الكوليسترول فقط، معظمها موجود في جدران الخلايا. وينتج الجسم تقريباً حوالي 1000 مليجرام يومياً، ويبلغ معدل تناول الفرد الأميركي للكوليسترول من مصادر غذائية ما بين 200 و300 مليجرام، والذي تعتبر الأجبان، وصفار البيض، واللحوم الحمراء، والدواجن، والأسماك، والجمبري (الروبيان)... من أهم مصادره الغذائية. أما كيف تؤدي المستويات المرتفعة من الكوليسترول إلى المرض واعتلال الصحة، فيختلف الميكانيزم في أمراض القلب عنه في الأمراض السرطانية. ففي حالة أمراض القلب، وحسب «فرضية الدهون»، تؤدي المستويات المرتفعة من الكوليسترول -خصوصاً ما يعرف بالكوليسترول السيء أو البروتينات الدهنية منخفضة الكثافة- إلى ترسبه على جدران الشرايين، بما في ذلك الشرايين المغذية للقلب ولخلايا المخ، مما ينتج عنه تصلب جدران تلك الشرايين، وتكون لويحات بين ثنايها، تعيق تدفق الدم، وتؤدي إلى تكون خثرات أو جلطات، تسد الشريان تماماً، وتمنع وصول الدم والأكسجين إلى خلايا عضلة القلب أو خلايا المخ. أما على صعيد الأمراض السرطانية، فعلى عكس الاعتقاد الشائع، اكتشف الأطباء أن الأنسجة الدهنية ليست أنسجة خاملة ساكنة، بل تتمتع بنشاط زائد، يتميز بإفراز للهرمونات، خصوصاً هرمون الاستروجين، والذي يحفز الخلايا السرطانية، ويساعد على نموها وانتشارها. وعلى ما يبدو، وعلى حسب الدراسة سابقة الذكر، والتي أجراها علماء «المركز الطبي» في جامعة «دوك» بالولايات المتحدة، يتشابه تأثير المستوى المرتفع من الكوليسترول مع التأثير الناتج عن الأنسجة والخلايا الدهنية. حيث يقوم الجسم بتحليل وتكسير الكوليسترول إلى مركب عضوي آخر (27HC)، يشابه هرمون الاستروجين في تأثيره على نمو، وتحفيز، وانتشار الخلايا السرطانية. ومن المنطقي أنه كلما ارتفع مستوى الكوليسترول في الدم، زاد تركيز المركب العضوي الناتج عن تكسره وتحلله داخل الجسم، وكلما تعاظم تأثير هذا المركب على الخلايا السرطانية، فإن ذلك يساعد على نموها وانتشارها لمناطق مختلفة من الجسم. وليس من الواضح، أو المؤكد حتى الآن، ما إذا كانت التوصيات الطبية الحديثة ستدعم مستقبلاً فكرة تناول عقاقير «الستاتينات» كاستراتيجية فاعلة في خفض احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية، أو الحد من انتشارها، وإن كان المعروف والمؤكد حالياً أن خفض مستويات الكوليسترول، من خلال خفض وزن الجسم، وممارسة الرياضة التي تؤثر بشكل خاص على مستويات الكوليسترول السيء، لن يحقق الوقاية من الأمراض السرطانية فقط، بل أيضاً من أمراض القلب والشرايين، التي تحتل حالياً رأس قائمة أسباب الوفيات بين البشر.