في كتاب «الأزمة أو تغيير النموذج؟» الذي أصدره مؤخراً الاقتصادي الفرنسي إيلي كوهن محاولة تفكيك وتفسير للأسباب التي جعلت الأزمات المتتابعة تلاحق الاقتصاد العالمي بوتيرة متسارعة طيلة الأربعين سنة الأخيرة تقريباً، فبعد الأزمة النفطية في سنتي 1973 و1979، جاء انهيار البورصات في سنتي 1987 و2001، ليلحق ذلك مباشرة انفجار فقاعة الإنترنت، وصولاً إلى بداية انهيارات الأزمة المالية الكبرى الأخرى في آخر العقد نفسه. وقد صار الآن هذا التواتر في مآزق الاقتصاد العالمي أكثر من مجرد ظاهرة تحتاج إلى دراسة، وإلى محاولة السعي لفهم العوامل المؤدية إليها، والعناصر المكونة لها، لأن ذلك يعتبر في الواقع شرطاً ضرورياً لتلمس الحلول الكفيلة بمواجهتها، وتجنيب الاقتصاد العالمي تداعيات هذه الدوامة الدائرة حول نفسها من المشكلات والأزمات. وكما يستعرض الكاتب بالتفصيل، يرتمي العالم منذ عام2007 في أتون أزمة مالية تعتبر واحدة من أخطر الأزمات في التاريخ الحديث، وقد تحولت المآزق المالية مع مرور الوقت في بعض البلدان إلى أزمة اقتصادية واسعة كما هي حال العديد من الدول الأوروبية، وفي بلدان أخرى خاصة ترجمت الأزمة الاقتصادية نفسها، بعد التدابير القيصرية القاسية التي اتخذت لاحتوائها، إلى أزمة اجتماعية صاخبة حيث تم تقليص فرص العمل، وتجفيف منابع الإنفاق الحكومي في دول ظلت حتى الأمس القريب تفاخر بنماذج دولة الرعاية والرفاه التي كانت تتبناها. وقد ترتبت على تفاقم الأزمة الاجتماعية أحوال من عدم الاستقرار العام، وبلغت التظاهرات الصاخبة ذروتها في اليونان مثلاً، وخاصة خلال فترة الحديث عن احتمال إشهار الإفلاس العام. وكان من أخطر ما في الأزمة المالية الأخيرة التي بدأت رسمياً في عام 2008، وإن كانت أعراضها بدأت قبل ذلك إلى حدما، أنها ضربت في الوقت نفسه بعض البنوك الرأسمالية الغربية الكبرى، في وقت تفاقمت فيه أيضاً أزمة الديون السيادية في العديد من الاقتصادات المهمة، وقبل ذلك تفجرت أزمة الرهن العقاري وانفجرت فقاعة التجارة الإلكترونية، وثبت فشل الكثير من القواعد التي درج عليها عتاة البيروقراطيين المصرفيين في الغرب خلال السنوات السابقة على الأزمة. وفي كل مرة ظلت العناوين والتسميات تتغير، ولكن الأزمة المالية والمأزق الاقتصادي نفسيهما ظلا ثابتين، على حالهما. وعلى كثرة ما صدر من كتب عن الأزمة المالية العالمية الأخيرة، وخاصة بعد انهيار بنك «ليمان براذر» الشهير، ظل التركيز قائماً في الغالب على البحث عن سبل الخروج من الوضع المالي والاقتصادي المأزوم لجهة اقتراح الخطط والتدابير الكفيلة باستعادة النظام الاقتصادي والمصرفي لعافيته، ولكن قليلة هي الكتب التي تعرضت لإشكالية النموذج نفسه كما فعل هذا الكتاب، الذي يعدو لضرورة تغيير قواعد اللعبة المالية الرأسمالية نفسها، بغية تخليصها من بعض مظاهر الخطل والزلل المزمنة التي تعاني منها. ويذهب المؤلف إلى أن المشكلة الاقتصادية العالمية الراهنة ذات أسباب هيكلية في الاقتصاد الرأسمالي نفسه، ولذلك فلابد أن تكون الحلول الموضوعة لها هيكلية أيضاً، من خلال وضع قواعد قادرة على تدبير أمور وتسيير مفردات الاقتصاد بنظام حكامة جديد أكثر انضباطاً وصرامة، وأقل مجازفة ومغامرة، مع التخلص من بعض الأوهام الاقتصادية، وأولها الاعتقاد بأن السوق المالية قادرة على تسيير نفسها بنفسها، أو من خلال تدخل يد خفية رأسمالية تسيرها. ولاشك أن الأزمات تعتبر هي نفسها سبباً وجيهاً في حد ذاته لتغيير ووضع قواعد اقتصادية وتسييرية جديدة للنظام الاقتصادي العالمي، بحيث تزداد القدرة على ضبط النفقات العمومية على المستوى الوطني الخاص بكل دولة، لنقل أوروبية مثلاً، والعمل على تقليل هوامش التأثير الخارجية المحتملة على اقتصاد الدول في حال مواجهة اقتصاد أجنبي مشكلات كبيرة لأسباب تخصه، وهذا يعني، استطراداً، إيجاد طريقة للتكيف مع آثار الترابط الاقتصادي العالمي الذي فرضته وتفرضه العولمة الاقتصادية والمالية الراهنة. ولاشك أن تغيير النموذج الاقتصادي يقتضي بالتبعية أيضاً تغييراً في الرؤية السياسية. وهنا يشير بعض منتقدي المؤلف إلى أن الطريقة التي يرى بها كيفية اجتراح تغيير النموذج الاقتصادي الرأسمالي، أو إصلاح بعض ما يراه اختلالات بنيوية فيه، إنما يمثل تعبيراً عن اتجاهه الاقتصادي- السياسي، وهو اتجاه يمكن تصنيفه في خانة «وسط اليسار»، ما يعني أن طرحه بهذا المعنى يمثل تعبيراً عن رأي ذلك التيار السياسي في كيفية الخروج بأوروبا من أزمتها المالية، والعالم من مأزقه الاقتصادي الراهن. ------- حسن ولد المختار الكتاب: الأزمة أو تغيير النموذج؟ المؤلف: إيلي كوهن الناشر: دوكيمانتاسيون تاريخ النشر: 2013