في عام 1985 كتب الصحفي والمعلق، جورج ويل، على نحو قد يشعره بالإحراج اليوم، مقالاً يعارض فيه مسألة فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على جنوب أفريقيا، معللاً ذلك بقوله «الحملة ضد جنوب أفريقيا مجرد عبث لن تؤدي إلى أي نتيجة»، لكن هذا التبرير المعارض للعقوبات، إلى جانب المخاوف الأخرى التي لم تتحقق قط في حالة جنوب أفريقيا مثل التخوف من ارتكاب المجازر ضد الأقلية البيضاء في حال سقوط نظام التمييز العنصري، ليس بالأمر الجديد، بل يكاد يكون مألوفاً، إذ يتردد كلما تعلق الأمر بفرض عقوبات على بلدان مثل كوريا الشمالية وكوبا، أو إيران، وهو تبرير يقول أيضاً إن العقوبات فقط تلحق الضرر بالناس العاديين فيما الحكومات والأنظمة تظل بمنأى عن أضرارها، لكن هذا التبرير، أو التشكيك في جدوى العقوبات سقط سقوطاً مدوياً في حالة نظام الأبرتهايد بجنوب أفريقيا، هذا ناهيك عن أن العقوبات في حد ذاتها لا تضر بمستقبل البلد، بل فقط بالطغمة الحاكمة، والدليل أنه بفضل الحصار النفطي الذي ضُرب على بريتوريا نجحت البلاد في الاعتماد على نفسها وتحقيق الاكتفاء الذاتي باعتبارها إحدى البلدان الرائدة في مجال استخراج النفط من الفحم، وبفضل الحصار أيضاً تمكنت جنوب أفريقيا التي كانت تستورد 60 في المئة من أسلحتها قبل عشرين عاماً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة 90 في المئة، وبل والتحول إلى بلد مصدر للسلاح، لذا تمثل اليوم العقوبات الدولية التي فرُضت على نظام الفصل العنصري وحملة المقاطعة التي قادتها الشركات في الولايات المتحدة وبلدان أخرى نموذجاً يحتذى به في كيفية ممارسة الضغوط الدولية وقدرتها على تغيير الأنظمة القمعية. وبالطبع لا يمكن الركون فقط إلى العقوبات الاقتصادية والقول إنها وحدها من أسقطت نظام الأبرتهايد لأن ذلك سيحرم نيلسون مانديلا ورفاقه من فضل مستحق، بل هناك من الاقتصاديين في السنوات اللاحقة من شكك في دور العقوبات الاقتصادية في زوال نظام الفصل العنصري، فقد جادل البروفيسور، فيل ليفي، من جامعة «يل» في عام 1999 أن العقوبات الاقتصادية كانت أقل أهمية في القضاء على الأبرتهايد من عوامل أخرى مثل «المعارضة السياسية الفعالة التي قادتها الأقلية السوداء، والكلفة الاقتصادية المتصاعدة لنظام الفصل العنصري، فضلاً عن سقوط الاتحاد السوفييتي»، وفي السياق نفسه، أشارت دراسة قامت بها جامعة كاليفورنيا إلى أن حملة المقاطعة الشرسة التي قادها العالم ضد النظام في بريتوريا «لم يكن لها التأثير الملموس على الشركات الجنوب أفريقية وذلك رغم الترويج الواسع الذي حظيت بها تلك الحملة، وتقلبات الأسواق المالية»، بيد أن المبالغة في الحديث عن العقوبات الاقتصادية ودورها في إسقاط نظام الفصل العنصري، لا تنفي أبداً التأثير النفسي العميق الذي مارسته، وهو ما أقره الباحث ليفي قائلاً: «كانت العقوبات مؤشراً قوياً على عزلة جنوب أفريقيا في المجتمع الدولي»، وكما أوضح ذلك أيضاً أحد كبار المصرفيين الجنوب أفريقيين لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام 1988 «لم يعد أحد في العصر الراهن يستطيع التباهي بالاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية، وأي بلد يقول ذلك يخدع نفسه... لذا ما زلت جنوب أفريقيا في حاجة إلى العالم». غير أن نجاح العقوبات في حالة جنوب أفريقيا يعني أن فعاليتها عموماً لا تتحقق إلا في ظل حكومات تحرص على التجارة مع البلدان التي تعاقبها، ومع دول تتحسس من مواقف الرأي العام الدولي، فبلد مثل جنوب أفريقيا، كان أحد الحلفاء المقربين للولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وهو لذلك أكثر حساسية تجاه العقوبات الدولية من كوريا الشمالية، أو كوبا، هذا بالإضافة إلى التأييد الشعبي الكبير الذي حظيت به حركة مناهضة «الأبرتايد»، فقد كانت انتفاضة «سويتو» لعام 1976 المحرك الأساسي للحركة الاحتجاجية وعملية التعبئة ضد التمييز العنصري، حيث نُظمت شتى مظاهر الاحتجاج من إشعال الشموع، إلى الاعتصام والعصيان المدني، كما أن طلبة الجامعات انضموا إلى الحركة من خلال التظاهر ومقاطعة الدروس احتجاجاً على النظام، وهكذا ومع اشتداد الضغط على جنوب أفريقيا وتوسع حملة مقاطعة الشركات الأجنبية للبلاد، بل والضغط على المتردد منها للانضمام للحملة، بدأت الكلفة الاقتصادية في الصعود، لا سيما بعد رفض البنوك توفير التمويل للشركات، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى تهاوي العملة المحلية. وبالإضافة إلى الجانب الاقتصادي المؤلم في العقوبات كان للرأي العام الأميركي المعارض لنظام الأبرتهايد، رغم تردد إدارة ريجان ومعارضتها لفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، دور حيوي في حشد التأييد للأغلبية السوداء، وهو ما يفسر إلى حد كبير فشل حملات المقاطعة والتوعية التي تقودها بعض الجهات الأميركية مثلاً للوقوف إلى جانب سكان التبت في الصين، أو في دارفور بالسودان، لكن وفي جميع الأحوال ورغم فشل حملات المقاطعة وعدم فاعلية الضغوط أحياناً في تحقيق النتائج كما هو الحال عليه مع روبرت موجابي وبشار الأسد، يبقى من المهم التذكير بتأثير العقوبات على الأنظمة، فهي لا شك ساهمت في دفع النظام الإيراني إلى طاولة المفاوضات مع الغرب، ولعبت دوراً أيضاً في انفتاح ميانمار الأخير على الإصلاحات السياسية. وبالعودة إلى الثمانينيات عندما أبدى الكاتب جورج ويل والرئيس ريجان شكوكهما في فعالية العقوبات المفروضة على جنوب أفريقيا وقدرتها على تغيير واقع البلاد وإسقاط نظام الفصل العنصري فإن الواقع والتاريخ يشيران إلى نجاح تجربة العقوبات في حالة جنوب أفريقيا، وذلك رغم صعوبة تعميمها على الحالات الأخرى. جوشوا كيتينج محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»