حضرتُ للتوّ ندوتين متتاليتين، إحداهما عُقدت في البحرين، والأخرى في أبوظبي، وركّزت كلتاهما على موضوع أمن الخليج، وهو موضوع قديم يتجدد باستمرار؛ خاصة في ضوء الاتفاقية النووية التي وُقِعت قبل أسبوعين بين الدول الست وإيران. فعلى رغم ترحيب دول مجلس التعاون المبدئي بها، إلا أنّ هناك هواجس وتحفظات عليها. وتنمّ هذه الهواجس عن اختلاف في الرؤى بين واشنطن وحلفائها الخليجيين. فدول الخليج العربية ترى أنّ مشكلتها مع إيران لا ترتبط فقط بالملف النووي، بل تتعدّى ذلك إلى ملفات إقليمية أخرى، يأتي في مقدمتها الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث، وتدخل إيران السافر في سوريا والعراق، ودعمها للحوثيين، وتدخلها في الشأن الداخلي الخليجي. ومن ضمن عدد من المداخلات في حوار المنامة، أشار سمو الأمير تركي الفيصل إلى أنّ إيران تريد أن تلعب دور مقاتل المنطقة، وتقايض دعمها لحروب المنطقة، كي تستخدمها كورقة ضغط على الولايات المتحدة والدول الغربية، حتى تعظّم من موقفها التفاوضي في الملف النووي. وطالب الأمير تركي الدول الغربية بضرورة وجود تمثيل لدول مجلس التعاون في المفاوضات النووية مع إيران. وقد تجاوب وزير الخارجية البريطاني مع هذا المطلب، إلا أنّ المتحدثة باسم الخارجية الإيرانية، رفضت أيّ تمثيل لدول مجلس التعاون في هذه المفاوضات. ترى بعض الدول الكبرى أنّ كبح جماح الملف النووي الإيراني من شأنه أن يخفف الضغط على دول الخليج العربية. غير أنّ دول الخليج العربية تتخوّف من توسّع إيراني متزايد في ضوء تراجعه في المفاوضات النووية. ولعلّ المثال السوري يعطينا توضيحاً أكثر في هذا الشأن، فقد نجح بشار الأسد في التحييد الجزئي للدول الغربية مقابل نزع أسلحته الكيماوية. ورأى أنّ مثل هذا النزع يعطيه رخصة مفتوحة لمواصلة قتل شعبه بالأسلحة التقليدية دون رادعٍ من ضمير، أو عقوبات دولية مشددة. ومن ناحيةٍ ثانية، حاول كل من وزير الخارجية البريطاني ووزير الدفاع الأميركي، اللذين ألقيا كلمتيهما في حوار المنامة، تطمين القادة الخليجيين إلى أنّ الدعم الاستراتيجي البريطاني والأميركي لا يزالان قائمَين. فوزير الخارجية البريطاني ذكّر مستمعيه بأنّ بريطانيا تسعى إلى تعزيز وجودها البحري والجوّي في منطقة الخليج العربي. ومن جانبه أشار «تشاك هاجل»، وزير الدفاع الأميركي، إلى أنّ هناك خمسة وثلاثين ألف مقاتل من الولايات المتحدة موجودون في قواعد خليجية للمحافظة على الأمن، كما أشار إلى وجود طائرات استطلاع ومعلومات تُجمع عن طريق الأقمار الصناعية تُوضع تحت تصرف دول الخليج. كما دعا إلى لقاءٍ يُعقد كل ستة أشهر بين وزراء الدفاع الخليجيين ونظيرهم الأميركي، لتقييم الوضع الاستراتيجي، ووضع الخطط اللازمة للمحافظة على الأمن الإقليمي. ورحّبت الولايات المتحدة، لأول مرة، بقيام تكتل دفاعي خليجي، وهو الأمر الذي نجح مؤتمر قمة الكويت في الاتفاق عليه. كما دعا الوزير الأميركي إلى ضرورة التنسيق الكامل بين أنظمة الدفاع الخليجية، حتى يتسنى لها خوض عمليات عسكرية مشتركة. كما عرض بيع دول الخليج درع دفاع جوي جديداً، مضاداً للصواريخ والمقذوفات. كما أشار أساتذة أميركيون آخرون، إلى أنّ تعزيز التواجد الأميركي في شرق آسيا لن يكون على حساب القوات الأميركية المرابطة في الخليج، بل سيأتي بشكلٍ أساسي من قوات أميركا المتواجدة في أوروبا، حيث لم يعد هناك دافع لوجود تلك القوات في مواجهة روسيا. ،من ناحيةٍ ثانية، زار وزير الخارجية الإيراني عدّة عواصم خليجية لتطمين دول الجوار حول النوايا الإيرانية. وتهدف إيران، في المقام الأول، إلى التعامل مع دول الخليج بشكلٍ ثنائي، بغرض فصم تحالفها القائم في مجلس التعاون. وعلى رغم بعض التصريحات المدوّية التي سُمعت في حوار المنامة، إلا أن المصالح الحقيقية الخليجية تحتم على هذه الدول الانتظام في عقد استراتيجي وأمني واحد، يقف حائلاً أمام محاولة التفكيك والشرذمة، ويعمل كدرع واقٍ ضد محاولات الهيمنة الإيرانية. وكان هناك، كذلك، سجال بين المتحدثين حول وجود توازن للقوى في المنطقة، من عدمه. وبينما اتفق المحاضرون على أنّ الوجود العسكري الأميركي، بالإضافة إلى القوة الخليجية التي تمثل (على الأقل في مجال القوات الجوية) قوة موازية لإيران، فإنّ المحاضرين اتفقوا على اختلالٍ في موازين التهديد. فباستطاعة إيران أن تهدد دول الخليج من جهاتٍ عدّة، وعن طريق خلاياها النائمة في بعض دول الخليج، حيث تتعامل إيران بسياستين خارجيتين، إحداهما دبلوماسية يقودها وزير الخارجية، وأخرى عسكرية، يقودها قائد فيلق القدس. وهذا ما يصعّب التعامل مع السياسة الخارجية الإيرانية التي تتحدث بلسانين مختلفين. غير أنّ دول الخليج العربية لديها تحفظات ومطالب مشروعة، وفي حال لبّت إيران هذه المطالب، فإن عودة العلاقات الخليجية- الإيرانية لسابق عهدها، ستكون في مصلحة الطرفين، الإيراني والخليجي. وعلى إيران أن تجد حلولاً للمشاكل العالقة، حتى تتفرّغ لبناء اقتصادها الذي أنهكته العقوبات والعزلة الدولية التي استمرّت عدة عقود. وللشعب الإيراني كل الحقّ في أن يطالب قادته بالعودة إلى التراث القديم، والتعامل التجاري والاقتصادي مع جيرانه، بدلاً من التخندق وراء شعارات إيديولوجية، وسياسات توسّعية يقودها الحرس الثوري وأعوانه في كلٍ من العراق ولبنان. فالقوة لا تأتي من فوهة البنادق، بل تأتي من التعاون والتجارة والتنمية الاقتصادية، والتي تمثل جميعها مناقضاً مشتركاً للحشد الإيديولوجي والسياسي.