ما يحدث اليوم في تايلاند من صدامات وأعمال عنف واستهداف لمؤسسات الدولة أمر محزن للكثيرين في الخليج، خصوصاً أولئك الذين عرفوا هذه البلاد وشعبها الوديع. وبطبيعة الحال، فإن الاضطرابات الراهنة في هذا البلد المتميز لجهة تاريخه وهويته وثقافته ليست بجديدة عليه. فهو شهد في العقود الأربعة الأخيرة انقسامات عميقة، بين العسكر والمدنيين، أو بين النخب "المدينية" وأبناء الريف، أو بين الساسة المخلصين للبلاط الملكي وغيرهم ممن تلوثت عقولهم بالأفكار الراديكالية، غير أن تلك الانقسامات لم تؤد إلى استباحة مؤسسات الدولة بالصورة التي حدثت مؤخراً. في كل حالات الاضطرابات والانقسامات السابقة كانت إشارة من ملك البلاد "بهوميبون أدونياديت" كفيلة بإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، علما بأنه لم يتجاوز قط حقوقه الدستورية الثلاثة الأساسية (إسداء المشورة إلى رئيس الوزراء، وتحذيره، وتشجيعه) بطريقة تحقق المصلحة الوطنية العليا. لكن ظروف اليوم مختلفة عن ظروف الأمس، فالملك الذي يحكم البلاد منذ 1932، ويحظى بمكانة سامية لدى شعبه تصل إلى درجة التقديس، صار عمره اليوم 86 عاماً، وأجرى في السنوات الأخيرة العديد من العمليات الجراحية، وبالتالي تراجع نشاطه ولم يعد في حالة تسمح له بالإطلاع الدقيق على مجريات الأمور وعلاجها، الأمر الذي تعزز معه دور رجال البلاط، الذين عُرفوا بالسعي لتنفيذ أجندات معينة تتفق مع مصالحهم. من ناحية أخرى، نمت في السنوات الأخيرة فئة بقيادة رجل الأمن السابق "تاكسين شيناواترا" لا تخفي معارضتها للنظام الملكي، وهو ما لم يكن أحد يتجرؤ عليه في الماضي. ومما يُقال في هذا السياق إن "تاكسين" قد أصيب بالغرور وتخيل نفسه ملكاً غير متوج، ليس فقط لأنه تمكن من تحقيق ثروة خيالية من خلال الصفقات الضخمة في مجال الاتصالات والمضاربة في البورصات، فتحول إلى ملياردير، ثم إلى زعيم حزب "تاي راك تاي"، فإلى رئيس للحكومة بعد انتخابات أبريل 2006، وإنما لأنه تمكن من تحقيق شعبية كاسحة لنفسه في الأوساط الريفية الفقيرة غير المتعلمة عبر إقامة المشاريع التنموية والاجتماعية في الأقاليم النائية، ناهيك عن شراء الذمم والولاءات التي خلقت له أتباعاً لا يُستهان بهم، وهم أولئك الذين يرتدون القمصان الحمراء (اختيار اللون الأحمر ذو دلالة كونه لون الراديكاليين من العمال والفلاحين المعادين للملكية والنخب البرجوازية المدينية)، وهؤلاء الاتباع يحركهم "تاكسين" من منفاه الاختياري، الذي هرب إليه في أغسطس 2008، أي قبل صدور الحكم عليه بتهمة الفساد واستغلال النفوذ. ويُعتقد أن "تاكسين" مستاء من شقيقته رئيسة الوزراء "ينجلوك شيناواترا"، لأنها لم تسقط الاتهامات الموجهة له بالفساد، وبالتالي لم تمهد له الطريق للعودة إلى تايلاند من منفاه من أجل العمل مجدداً في السياسة كما كان يتمنى، على الرغم من أن صعودها إلى السلطة كان بفضل أمواله وأصوات أنصاره. لذا ضغط عليها وعلى قادة حزبها كي يستخدموا أغلبيتهم البرلمانية لتمرير قانون يسمح له بالعودة دون تنفيذ عقوبة السجن. فكان مجرد محاولة تمرير مثل هذا القانون، معطوفاً على تمرير قانون آخر بانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ بدلاً من تعيينهم من قبل الملك في الشهر الماضي، كفيلاً بإشعال الحريق، وبروز المشرع ونائب رئيس الوزراء الأسبق "سوتيب توغسوبان" على الساحة السياسية كزعيم لحركة المعارضة الشعبية ضد آل شيناواترا. هذا على الرغم من سيرة الرجل المثيرة للجدل بسب ضلوعه في قضايا فساد وإفساد سابقة ومسؤوليته الأدبية عن مقتل العديد من التايلانديين حينما كان مشاركاً في حكومة رئيس الوزراء الأسبق" أبهيسيت فيجاجيفا" ما بين 2008 إلى 2011، ناهيك عن استخدامه المال السياسي من أجل ضمان احتفاظه بالمقعد النيابي عن منطقة "بوكيت" منذ 1979. والحقيقة أن "ينجلوك" خالفت كل توقعات المراقبين يوم أن اختيرت لتكون أول سيدة تحكم تايلاند بسبب زعامتها لحزب "بويا تاي"، الذي حصد 48 في المئة من أصوات الناخبين في انتخابات 2011. فقد أثبتت أنها ملمة بشؤون الحكم والاقتصاد والعلاقات الخارجية، قبل أن يتضح عجزها عن إدارة الأزمنة الراهنة باعترافها، حينما قالت: "لا أحد يعرف إلى أين نحن سائرون"، وإنْ يُحسب لها ضبط النفس وتجنب استخدام العنف ضد المتظاهرين، ناهيك عن تمسكها بالدستور، وهو ما تجسد في رفضها القاطع لمطالب "توجسوبان" وأنصاره بتجاوز السلطتين التنفيذية والتشريعية المنتخبة وإحلال "مجلس شعبي" مكانهما، قائلة إن الاستجابة لهكذا طلب هو انتهاك صارخ للدستور. وهذا يذكرنا بما فعله العاهل التايلاندي في 26 أبريل 2006، حينما رفض طلباً من بعض القوى السياسية لتعيين رئيس حكومة ومجلس وزراء من أجل استباق فوز "تاكسين" بالحكم في انتخابات ذلك العام، ووضع حد مبكر لطموحاته الشرهة في السلطة. حيث كان رد الملك أن "تعيين رئيس للحكومة بقرار مني عمل غير ديمقراطي" والحال أن الأزمة التايلاندية فريدة في نوعها، لأنها ليست أزمة سياسية بقدر ما هي أزمة "سوسيواقتصادية" بين رجال الأعمال والمتعلمين المنتمين إلى الطبقة الوسطى، والأميين المنتمين إلى الطبقة الفقيرة. وترك هذه الإشكالية دون حسم معناه سيادة الفوضى التي ستقضي على ما حققته البلاد من تقدم ونهضة ونمو. أما من الذي يُمكنه حسم الأمر دون أن ينتصر لهذا الطرف أو ذاك، ودون أن يمس هيبة الملك والنظام الملكي العريق فهو الجيش، خصوصا أنه اكتسب خبرة في التعامل مع هكذا أوضاع من خلال الانقلابات التي قادها ضد الحكومات المدنية أو ضد جنرالات حاكمين مشكوك في ولائهم للقصر، ابتداء من الانقلاب العسكري الأول في الخمسينات بقيادة الجنرال "ساريتدانا راجاتا" ضد حكومة الفيلد ماريشال "بيبول سونجرام" وانتهاء بانقلاب الجنرال المسلم عبدالله أو "سونتي بونياراتغلين" في 19 سبتمبر 2006 ضد حكومة "تاكسين شيناواترا". ومثل هذا الاحتمال قائم إلا إذا اتخذت "إينغلوك" قرارا بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة (فعلته أثناء إعداد المقال). ذلك أن أيا كانت نتيجة الانتخابات فإنها لن توقف الانقسام في الشارع. وأخيرا فإن هناك من المراقبين من لا يستبعد وجود أصابع أميركية فيما يجري مشيراً إلى أن واشنطن تفضل رحيل "إينجلوك" بسبب علاقتها الوثيقة مع بكين، خصوصاً أنها من أصول صينية. ـــ ـ ـ ـ ـ ـ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين Elmadani@batelco.com.bh