إليكم درجة الضعف التي بلغها التأثير الأميركي في مجريات الحرب السورية الرهيبة: فحتى تنجح دبلوماسية إدارة أوباما عليها اليوم البحث عن مساعدة الجماعات المسلحة التي تحمل اسم «الجبهة الإسلامية»، مع كل ما يحيل إليه من مخاوف وتوجسات غربية، علماً أنها ليست النتيجة التي كانت تطمح إليها الإدارة الأميركية. فعندما اهتم أوباما أول مرة بالشأن السوري في عام 2011 كان أمله أن الانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد لا تحتاج أكثر من دعم أخلاقي من العالم الخارجي كي يسقط النظام الوحشي الذي حكم سوريا لعقود طويلة، لكن عندما لم يحدث ذلك عرض أوباما تقديم مساعدات متواضعة اقتصر أغلبها على دعم غير عسكري يصل إلى مجموعات معتدلة في المعارضة السورية باعتباره كافياً لإنعاش آمالها، دون أن يمكنها من حسم المعركة. وحتى عندما استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية ضد أحياء مدنية، هدد أوباما بالتدخل العسكري واستخدام القوة، فقط ليتراجع محطماً آمال الأطراف الموالية للولايات المتحدة ضمن المعارضة التي انتظرت طويلاً عملاً عسكرياً تبادر به واشنطن دون جدوى، وفي هذه الأثناء كانت القوات المنافسة في الساحة السورية تبحث عن موطئ قدم مثل الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة»، التي تستفيد من التمويل الإقليمي وتحث «الجهاديين» في المنطقة على التوجه للقتال في سوريا. وفيما كانت الولايات المتحدة تتحسب جيداً في خطواتها بسوريا حتى لا تقع الأسلحة في الأيدي الخطأ، كانت القوى الأخرى الداعمة للجماعات «الجهادية» تتحرك بسرعة وسخاء، والنتيجة أن العديد من المتمردين الشباب انجروا وراء المال المتدفق، وبالأخص وراء الأسلحة، لينقلوا ولاءهم من المجموعات المعتدلة إلى «الجبهة الإسلامية»، وهو ما يضعنا وجهاً لوجه مع الوضع الحالي في سوريا، حيث تدور حرب أهلية طاحنة بين أربعة فصائل، ويبقى الجيش «السوري الحر» الذي تدعمه الولايات المتحدة ويقوده اللواء سليم إدريس الأضعف بينها، فقد تعرض مقره نهاية الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى مخزن تابع له، إلى اجتياح من قوات تابعة للجبهة الإسلامية التي تمولها دول إقليمية، حيث تمكن المهاجمون من الاستيلاء على معدات وأجهزة أميركية بما فيها شاحنات ومواد غذائية، وفي تعليق لأحد المتحدثين باسم «الجيش السوري الحر» سلمت قوات اللواء إدريس المقر دون مقاومة لأنهم لم يكونوا بالقوة الكافية للدخول في مواجهة مع عناصر الجبهة الإسلامية، ولعل من تداعيات هذا الهجوم إحراج قائده اللواء إدريس الذي أمضى جزءاً كبيراً من الأسبوع الجاري ينفي هروبه خارج سوريا، ليؤكد بذلك فقط ما بات معروفاً على أرض الواقع من أن الفاعل الرئيسي ضمن المعارضة المسلحة هي «الجبهة الإسلامية» التي تنضوي تحتها مجموعة من الفصائل الإسلامية التي تتفق جميعها على تطبيق الشريعة الإسلامية في سوريا الغد. هذا الأمر يوضحه «أندرو تابلر» الخبير في الشؤون السورية بـ«معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، قائلاً «إن عناصر الجبهة من السلفيين لكنهم ليسوا متطرفين»، وما يعنيه ذلك أنه رغم سيطرة أشخاص متدينين على الجبهة الإسلامية من الطائفة السُنية، وهم على الأرجح لا يؤمنون بالديمقراطية والتعددية، إلا أنهم على الأقل ليسوا من إرهابيي «القاعدة»، وهذا ما يفسر في جزء منه على الأقل محاولات الدبلوماسيين الأميركيين إقناع الجبهة بالانضمام، أو حتى دعم، مؤتمر السلام المقرر عقده في مدينة «مونتريو» السويسرية في الشهر المقبل. وقد أخبرتني مصادر مطلعة عن لقاء دار بين السفير، «روبرت فورد»، المكلف بالموضوع السوري، وممثلين عن الجبهة الإسلامية في تركيا مؤخراً، لكن ما تمخض عن اللقاء لم يتضح بعد، كما أن مواقف الجبهة فيما يتعلق بالمشاركة في مؤتمر السلام معروفة، حيث تصر على رفض أي مباحثات مع نظام الأسد، ويبدو أن هذا الأخير هو الوحيد ضمن أطراف الصراع السورية الذي أبدى استعداده للمشاركة في المؤتمر. ورغم الجهود التي بذلها رئيس الدبلوماسية الأميركية، جون كيري، لضمان مشاركة واسعة للسوريين في المؤتمر بمن فيهم المعارضة المعتدلة، تبقى القدرة على تحقيق الهدف الرئيسي المتمثل في نقل السلطة من الأسد إلى حكومة صلاحيات واسعة، محدودة للغاية، في ظل تجاهل الأسد وداعمه الأساسي، روسيا، لهذا الطلب. وبدلاً من إزاحة الأسد من المشهد السوري سيركز المؤتمر، حسب العديد من المراقبين على مهمة إطلاق المفاوضات بين الفصائل السورية، على أن تبدأ بالقضايا غير الأساسية مثل وقف إطلاق النار وفتح المجال أمام المساعدات الإنسانية، على أمل أن يقود ذلك إلى مفاوضات أعمق حول مستقبل سوريا وشكلها النهائي، وفيما ستواصل رحى الحرب الأهلية دورانها ستواجه إدارة أوباما نفس الأسئلة الصعبة من قبيل ما إذا كان عليها مساعدة المعارضة السورية، وإلى أي مدى، ومن هم العناصر المستحقة؟ ومع أن إدارة أوباما قد تغير المسار وتقرر التعايش مع الأسد باعتباره خياراً أفضل من سوريا مقسمة تسيطر عليها «القاعدة»، وهو الرأي الذي يدافع عنه المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، «مايكل هايدن»، إلا أن ذلك سيكون بمثابة هزيمة محققة، فيما قد تقرر أميركا مواصلة جهودها لإنقاذ «الجيش السوري الحر»، وفي الوقت نفسه التقارب مع «الجبهة الإسلامية» وتحريك العمل الدبلوماسي، لكن هذا هو الخيار الذي يطلق عليه «فريدريك هوف»، من مجلس أتلانتيك، والخبير في الشؤون السورية «محلك سر» في إشارة إلى ما يخلقه الخيار الحالي من مراوحة في المكان نفسه دون تحقيق أي تقدم، فهو لن ينهي معاناة الشعب السوري، أو يزيل خطر المجموعات الجهادية. كل ما سيفعله أنه سيقلل احتمال تورط عسكري أميركي جديد في المنطقة، وهذا لعمري ما شكل أولوية أوباما منذ البداية. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم.سي.تي.انترناشونال»