في عام 1989 كان فلاديمير بوتين ضابطاً في جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق «كي جي بي» برتبة مقدم، أما موقعه فكان مدينة دريسدن بألمانيا الشرقية، أحد المواقع الراقية التي كان الجميع وقتها ضمن حلف وارسو يسعى إلى العمل فيها. ذلك أن ألمانيا الشرقية عموماً كانت بمثابة واسطة العقد بالنسبة للاتحاد السوفييتي وتحتل مكانة خاصة في إمبراطوريته الممتدة على طول أوروبا الشرقية. ولكن بعد الأحداث المزلزلة التي جرت في عام 1991 عندما انهار المعسكر الشرقي، وقبله توحدت الألمانيتان إثر سقوط جدار برلين وما تبع ذلك من تطورات دراماتيكية، فلابد أن بوتين رأى عالمه الذي نشأ فيه يتداعى أمام عينيه لتختفي أيام مجيدة سطرها الاتحاد السوفييتي السابق كقوة عالمية تنافس الغرب وتزاحمه على الريادة. ولاشك أيضاً أن سنوات الاضطرابات تلك كان لها أثر عميق في بلورة نظرة بوتين السياسية والنفسية للعالم، والتي تفسر إلى حد كبير رغبته الراهنة في استعادة مجد روسيا الضائع وإعادة بعثها مجدداً من تحت الرماد لتستعيد موقعها وتتبوأ مركزاً مرموقاً بين القوى العالمية. وعندما صعد بوتين إلى الرئاسة في عام 2000 وضع نصب عينيه تحقيق هذا الهدف من خلال معالجة الاختلالات العميقة التي خلفها انهيار الاتحاد السوفييتي في المجتمع الروسي وإعادة بعض الألق للاقتصاد المتهالك. ولهذا سعى إلى تمديد ولايته والترشح لولاية أخرى، وحتى عندما انتهت الولاية الثانية في 2008 ظل في السلطة من خلال تولي منصب رئيس الحكومة التي عاد منها إلى الرئاسة مجدداً في 2012. ويُنظر إلى بوتين من قبل المراقبين على أنه رجل صارم وقائد حازم وعاقد العزم على استخدام ولايته الثالثة في الرئاسة، وربما الرابعة أيضاً، لطي صفحة الإهانات التي عانت منها روسيا، كما عانى منها هو ورفاقه الشيوعيون بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وفيما سعى بوتين إلى ترك بصمة خاصة على الساحة الدولية تميزت بالصرامة، في مؤشر على عودة روسيا القوية للانخراط في القضايا العالمية، فقد ركز بصورة خاصة على قضايا الأمن الداخلي والجوار القريب من الحدود الروسية، وهو ما يعني تعزيز قاعدته الداخلية وتكريس نفوذه في الساحة السياسية الروسية. وقد قام بذلك من خلال إضعاف المعارضة وتقليم أظافرها وإخضاع وسائل الإعلام الرئيسية لقبضته حتى تظل مدينة له ولحزبه، وعلى الصعيد الخارجي انعكست الرغبة في تكريس قوة روسيا العائدة من خلال دول الجوار القريبة سواء كان ذلك في أوروبا الشرقية، أو منطقة القوقاز، أو غرب آسيا، أو أطراف روسيا الشرقية. ففي هذه المناطق المترامية الأطراف تواجه موسكو تحديات جمة تطرحها قوى منافسة مثل الاتحاد الأوروبي الساعي إلى التمدد شرقاً والاقتراب من الحدود الغربية لروسيا، والصين التي تنازع روسيا النفوذ في أطرافها الشرقية، هذا ناهيك عن كون الفرص الاقتصادية الكبيرة والامتيازات التجارية المهمة التي تطرحها الدولتان يصعب على المراقب تخيل مثيلتها لدى روسيا التي تحضر فيها بقوة مجموعة من المتنفذين ضمن الطبقة الأوليجارشية البعيدة عن احترام القانون. ولكن مع ذلك تحافظ روسيا على نفوذها في الجوار بالنظر إلى المصالح المشتركة التي تعود إلى أيام الاتحاد السوفييتي البائد مثل تقاسم بنية تحتية مشتركة في مجال الطاقة، وإمداداتها التي تكاد تسيطر عليها موسكو ما يجعل أي تفكير في تغيير هذه البنيات المتجذرة أمراً ينطوي على تكلفة باهظة. وقد رأينا مؤخراً كيف سعت روسيا إلى صد أي محاولات خارجية لمزاحمتها في فنائها الخلفي، حيث مارس بوتين والمؤسسة الروسية ضغوطاً كبيرة على أرمينيا وأوكرانيا لرفض اتفاقيات اقتصادية مربحة مع الاتحاد الأوروبي، والاستعاضة عنها باتفاقيات بديلة مع اتحاد جمركي تقوده موسكو، وهو المشروع الذي يحظى بدعم شخصي من بوتين باعتباره أحد الإنجازات التي ستسجل له. وقد تجلى الضغط الروسي على البلدين من خلال تهديدات مباشرة أطلقتها موسكو بأنه في حال اتفاقهما مع الاتحاد الأوروبي فسيتعرضان لعقوبات اقتصادية؛ وإذا كان انصياع أرمينيا للمطالب الروسية وقبولها العرض الروسي يبقى أمراً مفهوماً بالنظر إلى العوامل الاستراتيجية والنزاع المتواصل بين أرمينيا وجارتها الغنية أذربيجان حول إقليم «ناجورني كاراباخ» وحاجتها إلى الدعم الأمني الروسي، فإن حالة أوكرانيا تبقى معقدة، فقد كانت هذه الأخيرة على وشك التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي طال انتظارها، ولكن في اللحظة الأخيرة رفض الرئيس فيكتور يوكاشينكو الاتفاقية، مفضلاً التقارب الاقتصادي مع روسيا، وبالطبع كان لهذا الرفض المفاجئ وقع الصدمة على فئات واسعة من الأوكرانيين الذين يرون مستقبل بلادهم مع الاتحاد الأوروبي وليس مع روسيا، ولاسيما سكان الغرب الأقرب إلى أوروبا، من خلال العلاقات الثقافية الوثيقة مع بولندا، ما أدى إلى اندلاع المظاهرات الحاشدة في شوارع العاصمة كييف وخروج عشرات الآلاف احتجاجاً على موقف الحكومة. ولكن المشكلة في أوكرانيا تتجاوز مسألة الضغوط الروسية وسياسة ليِّ الذراع التي لجأت إليها لتمتد إلى انقسامات المجتمع الأوكراني نفسه بين شرق موالٍ لروسيا بالنظر إلى علاقاته الثقافية واللغوية، وبين المناطق الغربية الأقرب إلى أوروبا، وما لم تسوَّ هذه الخلافات بالتوصل إلى اتفاق يُخمد فتيل الأزمة فقد يتطور الانقسام المجتمعي إلى انقسام للدولة نفسها. وفيما تظل أوكرانيا مهمة للغرب وأوروبا ما يفسر الحرص على ضمها للاتحاد، إلا أن أهميتها تبقى أكثر إلحاحاً بالنسبة لروسيا التي لا تستطيع التفريط في جارتها الغربية، ما يعني أن بوتين قد يذهب بعيداً في الحفاظ على أوكرانيا ويخاطر بأكثر مما قد يفعل الغرب لتكريس النفوذ الروسي، وهو بالضبط ما سيؤجج الأزمة الأوكرانية ويرشحها للمزيد من العنف والتعقيد.