في نهاية شهر أكتوبر الماضي ألقيت عدة محاضرات في مراكز دراسات استراتيجية في العاصمة الأميركية واشنطن -وبالتحديد في مؤسسة كارنيغي العريقة التي تقدم نفسها كمركز فكري عالمي- عن مخاضات ما يجري في الخليج العربي، وعن الدبلوماسية الخليجية، وذلك عقب الصدع في العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي وواشنطن حول قضايا تتفاعل منذ مدة، أبرزها قضايا سوريا ومصر وإيران.. وقد حاولت تقديم تصور عن أسباب القلق والغضب والحنق على أميركا. ولماذا يرتفع مؤشر عدم ارتياح حلفاء واشنطن في الخليج من بعض سياساتها ومواقفها تجاه العديد من القضايا الملحة والضاغطة سواء في مصر أو سوريا أو مع إيران. وخلال تلك المحاضرات أكدت أن خشية دول الخليج من إيران تختلف عن خشية وموقف إسرائيل منها. وأن أولوية الغرب في التعامل مع طهران لا تتقاطع مع أولويات ومخاوف جيران إيران في الخليج العربي. وقادة إسرائيل ومعها حليفتها القوية واشنطن، والدول الكبرى، يضعون ملف إيران النووي في قمة أولوياتهم، لا بل إنه هو همهم الوحيد على ما يبدو بناء على ما نتابع ونرصد.. كما أوضحت في محاضراتي في واشنطن قبل التوصل للاتفاق المرحلي بين القوى الست الكبرى وإيران حول برنامجها النووي الذي يمنحها فترة امتحان لستة أشهر بوقف تخصيب اليورانيوم. ومنذ التوقيع على الاتفاق التمهيدي قبل شهر تغير الكثير من المعطيات وزاد منسوب القلق في المنطقة بشأن الالتزام الأميركي بأمن ومصلحة الحلفاء... وهذه الخشية التي حذرت منها، مبناها أن تكون هناك تفاصيل لصفقة كبيرة تطلق يد إيران في المنطقة على حساب مصالحنا التي لم يتم أخذها في الاعتبار ضمن بنود الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران. وخاصة أن التفاوض اقتصر على ملف إيران النووي، ولم يكن هناك تطرق للقضايا التي تثير مخاوف وهواجس حلفاء واشنطن والغرب في المنطقة الذين أبدوا تحفظاً بسبب ما يمكن أن يتضمنه هذا الاتفاق الذي قد يتطور إلى صفقة كبيرة تغير من معالم المنطقة وتؤسس لنظام إقليمي جديد وسط إعادة رسم للتحالفات. وزاد من قلق حلفاء واشنطن في المنطقة في دول مجلس التعاون الخليجي خاصة، وحتى تركيا ومصر وإسرائيل، التجاهل الأميركي لمصالح هؤلاء الحلفاء الذين شعروا بالإقصاء وعدم مشاركة واشنطن والقوى الكبرى لرأيهم وموقفهم. ودول مجلس التعاون الخليجي هي المتأثر الأول بما يجري من تفاوض أو صفقة، وخاصة بعد أن رشح عن المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران على مدى الأشهر الماضية -حسب صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»- ما زاد من المخاوف أن يشق الاتفاق النووي المرحلي مع إيران الصف الخليجي، ويعطي طهران انتصاراً معنوياً بالنقاط أكثر في مواجهاتها المستمرة مع دول المجلس. وقد برز في مؤتمر «حوار المنامة» مؤخراً، تأكيد عُمان أنها ستقرر الانسحاب من مجلس التعاون الخليجي إذا ما قام الاتحاد الخليجي، على رغم عدم معارضتها لهذا الاتحاد، ولكن لن تنضم إليه إذا ما أعلن، لا بل ستنسحب من المجلس.. وكان لهذا الموقف تأثير كبير على قمة مجلس التعاون الخليجي التي عُقدت في الكويت والتي وصفتها بـ«القمة التوافقية». ولعدم إبراز الخلافات الخليجية- الخليجية، تم تأجيل مناقشة موضوع الاتحاد الخليجي للمزيد من الدراسة، وتم التركيز في القمة على إقامة «مركز قيادة عسكرية موحدة» لدول المجلس، وصرح قبل أيام وزير الحرس الوطني السعودي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز بأن القوة العسكرية الخليجية التي ستنشأ سيكون قوامها 100 ألف رجل «إن دول مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية تعد القوة الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط... وإن وحدة الصف الخليجي هي القوة الحقيقية للمنطقة كلها وللأمة العربية». وقد لمحت إلى أن أحد المخاوف التي تخشى منها دول المنطقة ليست الثمن الذي ستدفعه إيران بل ما ستقبضه من أبعاد الصفقة والمقايضة.. مقايضة النووي الإيراني مقابل ماذا؟ دور وحضور وشرطي المنطقة؟ ما هو الثمن؟ والخشية اليوم أن تفهم إيران أن التقارب الأميركي الغربي معها -مع أن الدول الكبرى لم تعترف كما تؤكد إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم كما تفاخر طهران اليوم وحلفاؤها- يعني أنه لا مانع لدى هذه الدول من أن توكل لإيران دوراً وحضوراً في ملفات وقضايا المنطقة الشائكة والمعقدة، والتي تفتقد لوكيل إقليمي ولاعب يملك القوة والحضور والقدرة والدهاء وفرص النجاح.. وإيران قد تكون الدولة الوحيدة لتلعب ذلك الدور مستقبلاً! وهناك اليوم تهديد من 26 عضواً من مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بفرض المزيد من العقوبات على إيران إذا لم تلتزم بالاتفاق المرحلي حول برنامجها النووي خلال الأشهر الستة القادمة.. «وأن تلتزم الولايات المتحدة بتقديم الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي لإسرائيل إذا ما قررت شن عملية عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية». وقد سارع أوباما وأركان إدارته برفض هذا التوجه وهدد باستخدام «الفيتو» ضد هذا التشريع المحتمل من مجلس الشيوخ، لأنه يعيق المساعي الدبلوماسية بقيادة واشنطن للتوصل إلى حل دبلوماسي لمشروع إيران النووي. وما تراه إيران من استعداد أوباما لمواجهة مجلس الشيوخ وشيوخ من حزبه بسلاح «الفتيو» يعزز ثقتها في أن الإدارة الأميركية تعول أكثر على طهران ليس فقط في مشروعها النووي ولكن ربما في أن تلعب إيران أيضاً دوراً إيجابياً يساعد أميركا على الانسحاب المتدرج من أفغانستان في عام 2014، وحث الأسد على الاتفاق حول تسوية في سوريا والمشاركة في مفاوضات جنيف 2 وكبح «حزب الله» في لبنان. وهكذا تعزز إيران من مكانتها على رغم معاناة حلفائها في العراق وسوريا ولبنان، وخاصة أنها تقدم نفسها اليوم باعتبارها «حلالة المشاكل» والطرف القادر على تسوية الكثير من الملفات الشائكة التي تهم واشنطن وحلفاءها في المنطقة. إن إيران ليست بحاجة لتحقيق انتصار بالضربة القاضية... وعلى رغم كونها مُثخنة وفي حالة انكشاف، إلا أنه تحسب لها إدارتها بدهاء للأزمات التي تعصف بها، وخاصة في سوريا. ويكفي إيران كسب المواجهات بالنقاط، حيث يرتفع شأنها وحضورها في النظرة الاستراتيجية من قبل خصومها، وخاصة واشنطن المنكفئة، التي تبحث عن توازن جديد يكون لإيران دور فيه، ولو على حساب شركائها وحلفائها في دول الخليج العربية!