لماذا كانت أرض شرق أفريقيا منجماً للأحافير، وبالذات في الحبشة الجافة وتنزانيا وكينيا حيث ينسلق الدماغ تحت حر مرعب؟ الجواب على هذا هو في المناخ وطبيعة التربة؛ فمع تغير المناخ منذ حوالي ثمانية ملايين عاماً بالاندفاعات البركانية، قامت كتلة جبلية هائلة في الحافة الغربية من أفريقيا تصطاد الغيوم القادمة من المحيط الأطلسي، فتحول غرب أفريقيا إلى طبيعة ذات أمطار غزيرة وتربة حامضة لا تبقي على شيء من بقايا العظام، وتحول شرق أفريقيا تحت تأثير الرياح الموسمية إلى طبيعة متقلبة بين جفاف وأمطار موسمية؛ فجفت الأرض وارتفعت الحرارة، وحفظت الحفريات وبقايا العظام الإنسانية (لحسن الحظ) تماماً كما فعلت الطبيعة مع المصريين، عندما حفظت مومياء الفراعنة، وإذا كانت التربة المصرية الجافة قد حفظت جثث الفراعنة الذين طمحوا إلى إيقاف الزمن؛ فإن التربة في الحبشة حفظت بتحنيطها الطبيعي ما حافظ على الهياكل عبر ملايين السنين، وكان أعظم نموذج تم الحصول عليه وهزت أخباره العالم، عندما تقدم العالم الأنثروبولوجي الأميركي (دونالد جوهانسون)، بالكشف عن هيكل عظمي يعود إلى (2.3) مليون سنة، وأخذ لقب «لوسي». كان الكشف عن هيكل «لوسي» في 3 نوفمبر 1974 حين عثر الأنثروبولوجي الأميركي دونالد جوهانسون مع مساعده «توم غراي» على ضفة نهر «أواش» في منطقة «هدار» على بعد 240 كم شمال شرق العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وفي جو يغلي بحرارة 43 مئوية على بقايا هيكل إنساني لأنثى كانت تمشي منتصبة، وخلال ثلاثة أسابيع من العمل المتواصل أمكن جمع حوالي 40 في المئة من هيكل كائن واحد، وبفحص عمر العظام في مركز (كليفلاند) للأبحاث الجيولوجية، أدركوا أنهم أمام أقدم كائن بشري عرف حتى ذلك الوقت، وإذ عمتهم الفرحة لهذا الاكتشاف التاريخي بقوا طول الليل يكررون أغنية البيتلز (لوسي في السماء ومعها الألماس)، لهذه الأنثى التي غيبتها طبقات الأرض قبل حوالي ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين(3.2)؛ فأعطوها اسم «لوسي»، وأصبحت علماً على هذا الاكتشاف المثير، ويمكن مشاهدتها في المتحف الطبي في باريس قريباً من اللوفر كما حصل معي. ولكن السؤال كيف يمكن تحديد العمر والمصدر حينما نقول عن عظمة عثرنا عليها إن عمرها مليوني سنة وليس سنتين؟ إنه سؤال جدير بالبحث؟ نحن إذن أمام مشكلتين كبيرتين عند العثور على قطعة عظم، وهما تحديد العمر والمصدر! فلماذا لا تكون قطعة العظم لحيوان أو قرد، وما هي الميزات التشريحية لهيكل الإنسان، بل التفريق بين حوض الأنثى والذكر؟ ولماذا نقول عن قطعة عظم إن عمرها مليون سنة وليس ستة أشهر؟! بل كيف تدخل القدم في الميزان بين توازن القسم العلوي والسفلي من الجسم فيقوم الإنسان باعتدال، ويمشي سوياً على صراط مستقيم، خلافاً للقرد الذي يتأرجح في مشيته مكباً على وجهه. إنها ميزة امتاز بها الإنسان دون سائر المخلوقات، وبالمشي المنتصب تحررت اليدان، ومع نمو الدماغ خارج الرحم ارتاح الرحم من حضانةٍ طويلة، فأخرج الإنسان بسرعة نسبية إلى الحياة في تسعة أشهر بدلاً من 21 شهراً. نحن نعرف من علم الأجنة أن نمو كل واحد سنتميتر مكعب من المادة الدماغية يتطلب نصف نهار من الإنتاج البيولوجي، وعند الولادة يكون الدماغ 750 سنتيمتراً مكعباً، وحتى يستكمل النصف الباقي- إذا أخذنا في الحساب أن الدماغ يقيس في المتوسط 1340 سنتيمتراً مكعباً- فإنه يحتاج لاستكمال بنيانه إلى رقدة 375 يوماً أخرى في الرحم، وهذا معناه سنة أخرى كاملة؟! لقد كان لهذا التطور أهميته القصوى وانعكاسه على بناء العلاقة الاجتماعية، فحاجة الطفل لنمو دماغه الطويل يجعله ليس مثل العجل الذي يستطيع أن يمشي فور نزوله من رحم أمه، فحتى يبدأ الإنسان في الوقوف أو المشي يكون العجل خلال هذه السنة قد أصبح يافعاً قوياً، أما الطفل الإنساني فاحتاج إلى طفولة طويلة بسبب البناء الثقافي. وهذه الثورة الثقافية في تاريخ الإنسان تم تدشينها قبل مائة ألف سنة فقط، وهي فترة قصيرة في عمر الزمان، ولكنها مثل لمعة برق مقارنة مع ملايين السنوات التي دب فيها الإنسان على الأرض، يحاول فيها أن يحافظ على وجوده البيولوجي لا أكثر، وعاش بأعداد قليلة ضعيفة الحول ، لا تعرف دورات المياه والحمام والنظافة أو الصابون، ولا التلذذ بأطايب الطعام، أو وسائل المواصلات العجيبة، فضلاً عن العناية الطبية التي تشبه السحر.