مرة أخرى تثبت إيرلندا للعالم أنها قادرة أكثر من غيرها على تجاوز الصعوبات والأزمات الاقتصادية، وتقدم نموذجاً لكيفية التعاطي مع هذه الصعوبات والأزمات من خلال التعاون الوثيق بين الحكومة ورجال الأعمال والعاملين من أجل انتشال بلدهم من الأزمة المالية التي اجتاحت العالم قبل خمس سنوات. لم يكن لدى الإيرلنديين وقت للتفكير في المتسببين للأزمة، إذ أن هذا الأمر سيأتي في وقته، المهم بالنسبة للجميع البحث عن مخرج ينقذ الاقتصاد الوطني من الانهيار، ويحد من التدهور المعيشي للسكان، وذلك على عكس معظم البلدان الأوروبية الأخرى التي شهدت تظاهرات وإضرابات عمقت من الأزمة المالية وأخرت كثيراً من عملية التعافي. ونتيجة لهذا التضامن الرائع بين مكونات المجتمع أنهت إيرلندا مؤخراً برنامج الإنقاذ الأوروبي الذي دام ثلاثة أعوام، والذي تم بمساعدة من كل من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي، حيث حصلت على قروض بقيمة 67.5 مليار «يورو»، وبذلك تعتبر إيرلندا أول دولة أوروبية تنهي برنامج إنقاذها من بين الدول التي تلقت حزم إنقاذ في منطقة «اليورو». ما يثير الإعجاب أنها تمكنت من ذلك بوقت قياسي، ومن دون الحصول على خطوط ائتمان إضافية من شركائها الأوروبيين أو من المنظمات الدولية، حيث اتبعت وصفة النجاح الخاصة بها، وساهمت فيها كافة فئات المجتمع بصبر منقطع النظير، فأولاً تم تطبيق موازنات تقشفية قاسية لمدة ثلاث سنوات، كما تم التحكم في المالية العامة، والتعامل مع ازدياد أعداد العاطلين بحكمة وتعاون وكثفت الجهود لزيادة الإنتاج ودعم ميزان المدفوعات وتقديم المزيد من التسهيلات للمستثمرين. هل تعتبر هذه الوصفة الإيرلندية صعبة التطبيق بالنسبة لبقية البلدان الأوروبية والبلدان التي لا تزال تعاني من تداعيات الأزمة المالية؟ مبدئياً يرجع ذلك إلى طبيعة المجتمع وثقافته وتجربته التنموية، إذ كانت إيرلندا قبل ثلاثة عقود من الزمن من أكثر البلدان الأوروبية تخلفاً في المجال الاقتصادي، إلا أنها وبالتعاون بين مكونات أطراف الإنتاج استطاعت تحقيق معجزة اقتصادية في فترة زمنية قصيرة. أما التجربة الجديدة والخاصة بالتعامل مع تداعيات الأزمة المالية، فإنها لم تساهم في إنهاء برنامج الإنقاذ الأوروبي فحسب، وإنما وضعت إيرلندا من جديد على طريق النمو، حيث حقق الناتج المحلي الإجمالي نسبة نمو بلغت 1.5 في المئة العام الجاري 2013 ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 1.8 في المئة خلال 2014، وهي نسبة نمو مناسبة إذا قورنت بنسب النمو في بقية دول منطقة «اليورو»، بما في ذلك تلك التي لم تشملها برامج «الإنقاذ» الأوروبية والدولية، في حين انخفضت نسبة البطالة إلى 12.9 في المئة، وهي أدنى نسبة منذ حدوث الأزمة. وتقديراً لهذا التجاوب الشعبي مع التوجهات الحكومية، سواء من قبل العاملين، أو رجال الأعمال، فقد وجه رئيس الوزراء الإيرلندي في شهر ديسمبر الجاري رسالة شكر للشعب الإيرلندي للتضحيات الكبيرة التي قدمها للخروج من الأزمة، مما يعبر عن علاقة استثنائية بين حكومة وشعبها في ظل أزمة طاحنة، إذ عادة ما تؤدي الأزمات إلى تغيرات حكومية وتبادل باللوم وانتقادات للأداء. في المقابل هناك بلدان أوروبية لا تزال تتخبط في أزمتها، إما بسبب الإضرابات والتوقف عن العمل والإنتاج، كاليونان، أو بسبب انتشار الفساد وسوء الإدارة، كإسبانيا على سبيل المثال، إذ على الرغم من وجود الجميع تحت مظلة الاتحاد الأوروبي و«اليورو»، إلا أن التعامل مع تداعيات الأزمة تتفاوت بصورة ملفتة للنظر بين دولة وأخرى. لذلك، فإن متابعة هذا التفاوت في كيفية التعامل مع تداعيات الأزمة المالية ومعالجتها واستخلاص الدروس والعبر منها أضحت ضرورة لبلدان العالم التي تعاني من أزمات أو التي لا تزال لم تتعاف من ترسبات الأزمة العالمية، إذ أن هذه الدروس والعبر، بما فيها التجربة الإيرلندية ستبقى حاضرة دائماً، على اعتبار أن الأزمات ستظل تتكرر ضمن الدورة الطبيعية للاقتصاد.