إن الفائدة الكبيرة من متابعة ما يجري اليوم في تركيا، هي أن الإسلام السياسي المنتشر في العالم ذو جوهر واحد صلب، ولكن بإهاب متنوع ومختلف، وأن ترعرعه في بيئات ومجتمعات مختلفة الثقافة والحضارة والعادات، هو ما يحدد له أطره ويرسم له حدوده، ويساعد في كبح جماحه ومدى طموحاته ومستوى شراهته في التهام ما أمكنه وطالته مخالبه من مؤسسات الدولة والاستحواذ على مفاصلها، ولكنه على الدوام يظل نشطاً وفاعلاً ومتوثباً ومتربصاً للخطوة التالية التي يضارع فيها كل أشقائه الذين وصلوا فيها إلى الحكم في بلدان عديدة قبل وبعد «الربيع العربي»، ويبدو حزب العدالة والتنمية نموذجاً رائعاً لهذا. ومن اللافت اليوم أننا نجد بعض قيادات حزب العدالة والتنمية يتحدثون عن دور كبير لشركائهم في جماعة فتح الله جولن في المحاكمات وتوجيه التهم ضد بعض القيادات العسكرية في القضية (أرغينيكون) في 2007. ومن غير الواضح ما إذا كانت التحقيقات التي تجري الآن مع عشرات من المتورطين في قضايا الفساد، سوف تقود إلى شخصيات محسوبة على جماعة جولن نفسها، التي كان أتباعها في أجهزة الأمن والشرطة والقضاء وراء الكشف والتحقيقات التي تشهدها تركيا في الأيام الأخيرة، ويشغل بعض أتباعها مناصب أيضاً، في الحكومة التركية. وما هو أكثر إدهاشاً إذا أكدت الوقائع والتحقيقات لاحقاً أن هذه الجماعة (الأكثر غموضاً) في تركيا اكتفت بالتغلغل في مفاصل الدولة وجعلت من نفسها «أخاً أكبر» ولم تؤكد التحقيقات تورط أحد من المحسوبين عليها. إن ما قد يكون سبباً في القضاء على هذه الجماعة مستقبلاً هو نجاح أعدائها في خلق مشاعر واسعة شعبية من الارتياب والخوف من جماعة سرية غامضة يمكنها أن ترصد كل تحركاتهم. وقد تتسبب تسريبات الأفلام الفضائحية الأخلاقية التي استهدفت العدالة والتنمية منذ الأسبوع الماضي، في تدمير سمعة بعض الأردوغانيين، ولكنها في الوقت نفسه قد تكون بداية ملحمة طويلة من الصراع قد تنتهي فصولها بأكبر حملة شعبية وثقافية لسحق تنظيم سري، تكون نهايته شبيهة بنهاية فرسان الهيكل. الملفت أن أردوغان أشار أكثر من مرة في الأيام القليلة الماضية إلى دولة داخل دولة، أو ما يمكن وصفه بـ«الدولة العميقة»، وهو تعبير عن العجز وضعف الحيلة أمام تيار محكم البناء، استفاد منه حزب العدالة والتنمية، وسعى في الوقت نفسه إلى مضارعته، والسير على منواله، أو على الأقل إلى تحطيمه واجتثاثه وتتبع بؤره، وهو ما لم يتمكن منه أردوغان خلال السنوات الأربع الماضية. ومن المهم ملاحظة أن تطور الأحداث الأخيرة يؤكد أن كلا الحليفين يمثل الإسلام السياسي التركي. ولكن لكل واحد منهما رؤية مختلفة لكيفية سيادة الإسلام وبعثه في الحياة التركية، حيث يمكن القول إن مشروع جماعة جولن يرتكز على إسلام محلي متجذر، يمكن من خلال العمل على ترسيخه لسنوات أو عقود في التربة التركية الانطلاق إلى إحياء دور تركيا في محيطها، بينما ترتكز رؤية العدالة والتنمية النسخة «الإخوانية» المعدلة على رؤية أممية، ترتب عنها ما نشهده من سوء علاقات تركيا بجيرانها وخصوصاً في سوريا ومصر. لقد كان العسكر يمثلون قوة توازن وكبح لجموح الإسلاميين من الضفتين، وبنجاح الحليفين في الإطاحة بقوة العسكر التي هيمنت بشكل كبير على القرار طوال سبعين عاماً فقد نتج عن هذا الوضع تعاظم قوة الاثنين، وانكشاف كبير في الأحزاب المعارضة والقوى السياسية التركية التي تعاني من تشتت وتفرق وضعف، وما نشهده الآن من معارك مكشوفة هو تعبير عن هذا الفراغ، الذي منحهما قوة كبيرة.