أزمة أمصال الوقاية من الأنفلونزا في الولايات المتحدة كشفت أن حماية حياة آلاف الأميركيين أقل ربحية من تنشيطهم جنسياً. هذه ليست نكتة، بل حقيقة وصفها بكلمات أفضح تقرير طبي عن اكتشاف واشنطن المفاجئ لاختفاء نصف تجهيزات أمصال الأنفلونزا في الولايات المتحدة. موسم الأنفلونزا على الأبواب، والمرض الذي يسببه فيروس يصيب أجهزة التنفس يؤدي إلى الحمى والآلام والسعال والغثيان والإسهال، ويمكن أن يؤدي إلى الوفاة. المصل أفضل وقاية منه، وتلقيح المُسنين والمرضى المزمنين شبه إلزامي، ويدخل حالياً ضمن الاستراتيجيات الصحية في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا. وتصيب الأنفلونزا نحو نصف مليون أميركي سنوياً، وتقضي على حياة 40 ألف شخص تقريباً. منظر الصفوف الطويلة لمئات المحتاجين إلى مصل الوقاية يبرر قول الكاتب المسرحي الأميركي يوجين أونيل أن "الولايات المتحدة أعظم فشل شهده العالم على الإطلاق". بعض المنتظرين في المدن الأميركية الكبرى عاد دون الحصول على الحقنة المطلوبة، وتوفيت عجوز مسنة خلال الانتظار في نيويورك، وارتفع سعر الحقنة في السوق السوداء من 60 إلى 800 دولار. السبب المباشر لهذه الفضيحة الصحية أسوأ منها، وهو اعتماد القوة الطبية العظمى على مصنع واحد في بريطانيا لإنتاج هذه الأمصال. لم ترتكب هذا الخطأ أي دولة أوروبية، بما فيها سلوفينيا، التي لا تُعدّ من الدول المتقدمة. حتى بريطانيا، التي أوقفت إنتاج مصنع الأمصال الأميركي في أراضيها بسبب تلوثه تعتمد على ستة مجهزين مختلفين.
وكما حدث في كارثة العراق سبب هذا الخطأ الاستراتيجي يعود إلى أن "بيزنس" أميركا هو "البيزنس". فالولايات المتحدة تنفق على الصحة أكثر من أي بلد في العالم، لكنها فشلت في بلوغ مرتبة أكثر عشرين دولة متقدمة صحياً في العالم. موقع أميركا 29، بين البرتغال وسلوفينيا في الجدول، الذي تعدّه سنوياً منظمة الصحة العالمية. يفسر هذه المفارقة عنوان كتاب صدر حديثاً للباحثين "دونالد بارليت" و"جيمس ستيل" بعنوان "كيف أصبحت الرعاية الصحية في أميركا بيزنس كبيراً وطباً سيئاً". ولا يشكك الباحثان، اللذان يعملان في مجلة "التايم" الأميركية في نظام السوق، حيث يعتبرانه رائعاً، عندما يتعلق الموضوع بزيادة مبيعات مختلف المنتجات الاستهلاكية من أدوات التجميل والسيارات إلى أجهزة الكومبيوتر. لكن هدف الرعاية الصحية ليس زيادة مبيعات عمليات قسطرة القلب، بل الحدّ من الإصابة بالأمراض التي تسببها. أي المشكلة باختصار عدم قدرة النظام الصحي القائم على اقتصاد السوق تأمين الرعاية الصحية اللائقة. فشركات الأدوية الأميركية أكثر الصناعات ربحية في العالم. لكن صناعة مصل الأنفلونزا ليست مغرية كقرص التنشيط الجنسي "فياغرا"، الذي يجلب مليار دولار سنوياً للشركة المنتجة "بفايزر". إنتاج المصل يجري سنوياً تبعاً لسلالة الأنفلونزا السائدة، التي ترصد انتشارها المنظمات الصحية العالمية كل عام. ولا تصلح على سبيل المثال الحقن المنتجة عام 2003 للاستخدام في 2004. وبسبب فترة عدة شهور اللازمة لتطوير المصل وتجربته، وصعوبة التنبؤ بحاجات السوق كل عام لا تعمد المصانع إلى إنتاج كميات كبيرة.
يفسر هذا لماذا انخفض عدد الشركات المنتجة لمصل الأنفلونزا خلال 30 عاماً الماضية من 25 إلى 5 شركات فقط، من بينها "تشيرون" (Chiron) المنتجة للمصل الملوث. وقد يفسر هذا أيضاً لماذا لا يشعر أعضاء الكونغرس وفريق كرة القدم الأميركي "بيرز" Bears بوخز ضمير من الحصول على مصل الأنفلونزا المخصص للمسنين والمرضى. ذكرت ذلك صحيفة "نيويورك تايمز"، التي كشفت عن الوضع المزعزع ليس لإنتاج المصل فحسب بل لتوزيعه أيضاً. وقبل أسبوع فقط من وقوع الأزمة حذر "مكتب الرقابة الحكومية" الكونغرس الأميركي "من عدم وجود نظام لضمان أولوية حصول المسنين وغيرهم من المحتاجين على أمصال الأنفلونزا في حال شحة تجهيزاته". الفشل في الاستجابة لهذا التحذير يعود، حسب "نيويورك تايمز" إلى الفلسفة السياسية لإدارة بوش، التي تترك للقطاع الخاص أمور إنتاج وتوزيع مصل الأنفلونزا. وبعد مساعٍ محمومة لمسح السوق العالمية أمكن لواشنطن الحصول على 61 مليون حقنة من مجموع 100 مليون اللازمة. لكن السلطات الصحية المحلية تشكو الآن من عدم وجود تعليمات حول مواقع الحصول على المصل وتوزيعه. أما كان الأحرى بواشنطن بدلاً من أن تطوّح بنفسها والعراق في كارثة دامية الاستفادة من تجربة الموظفين العراقيين في تنظيم قوائم توزيع التموين الغذائي على السكان، الذي تعتمده الأمم المتحدة للانتخابات في العراق؟!
سؤال أبسط يتردد الآن في الولايات المتحدة حول استعدادها لمواجهة هجوم "إرهابي" يستهدف محطاتها النووية. التحذير من ذلك ورد في الخطاب السنوي للرئيس بوش، الذي تحدث عن عثور القوات الأميركية في أفغانستان على خرائط مواقع المحطات النووية الأميركية. قانون "الإرهاب البيولوجي"، الذي صادق عليه الكونغرس طلب وضع دراسة علمية لتخزين وتوزيع أقراص بوتاسيوم اليود الخاصة ب