يبدو زعيم حركة «النهضة» التونسية راشد الغنوشي مثيراً للحيرة عندما يدافع عن سلطة جماعة «الإخوان» التي أسقطتها انتفاضة 30 يونيو المصرية، في الوقت الذي يتصرف خلال الشهرين الأخيرين بطريقة مختلفة تماماً عن تلك التي أصر عليها قادة تلك الجماعة والرئيس السابق المنتمي إليها وأدت إلى إسقاط حكمهم. تعامل الغنوشي ومعظم قادة حركته بمرونة مع مطالب قوى المعارضة المدنية الديمقراطية التي لا تختلف عما طالبت به نظيراتها في مصر خلال فترة حكم جماعة «الإخوان»، بل تكاد تكون نسخة منها. فقد تركز الخلاف في مصر، كما في تونس، على قضيتي الدستور والحكومة. وفيما تشبثت قيادة جماعة «الإخوان» والرئيس المنتمي إليها بفرض دستور لا يحظى بحد أدنى من التوافق، وبعدم استبدال الحكومة التي كانت تابعة لها، وافقت «النهضة» بعد طول ممانعة على تقديم تنازلات كبيرة لتيسير ميلاد دستور توافقي واستقالة حكومة الترويكا التي كانت تهيمن عليها، مفسحةً المجال أمام تشكيل أخرى تكنوقراطية مستقلة حتى إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة. ولابد أن يلفت ذلك التناقض في موقف الغنوشي الانتباه ويثير التساؤل عما إذا كان موقفه الراهن الذي يتسم باعتدال ومرونة يعبر عن توجه استراتيجي أم أنه مجرد توجه تكتيكي اضطرت إليه «النهضة» تحت ضغط المعارضة وتفاعل قطاع واسع من الشعب معها وبفعل القلق من أن تلقى مصيراً مشابهاً لما انتهت إليه جماعة «الإخوان» في مصر؟ وتزداد أهمية هذا السؤال في ضوء مراجعة تجربة حركة «النهضة» في الحكم في إطار نظرة مقارنة مع ما حدث في مصر خلال العام الذي تولى فيه مرسي رئاسة الجمهورية. ورغم أن حركة «النهضة» كانت أكثر ميلا إلى إعطاء انطباع بعدم المغالبة وأقل جموحاً من جماعة «الإخوان» في مصر، فقد ظل الفرق بينهما كمياً وليس نوعياً، وفى الدرجة وليس في الاتجاه. فقد أقامت حركة «النهضة» تحالفاً ثلاثياً ضم حزب «التجمع من أجل الجمهورية» و«التكتل من أجل العمل والحريات»، لكنها لم يكن أمامها خيار إلا الائتلاف مع حزب آخر أو أكثر لكى تستكمل الأغلبية النيابية في نظام شبه برلماني. وقد اختارت حزبين يكونان سهلين بالنسبة إليها أن تقودهما، وابتعدت عن الأحزاب الأكثر تعبيراً عن قواعد الدولة المدنية وأسسها. لذلك لم يحل ذلك المنحى، الذي بدا توافقياً مقارنة بمنهج جماعة «الإخوان» في مصر، من دون سعيها إلى فرض هيمنتها ومغازلة تنظيمات معادية للتعددية والديمقراطية والدولة المدنية ومتهم بعضها بممارسات ميليشياوية واستئصالية، مثل «لجان حماية الثورة». كما سعت في البداية إلى مد جسور مع قوى سلفية متطرفة مثل جماعة «أنصار الشريعة»، قبل أن تضطرها مواقف هذه القوى وممارساتها العنيفة إلى التراجع. ورغم أن القوى الحية في المجتمع التونسي أثبتت منذ وقت مبكر أنها لن ترضخ لاستبداد من نوع جديد يتشح بالدين هذه المرة، ظلت حركة «النهضة» تناور بأمل إرهاق هذه القوى ومن ثم إضعاف قدرتها على الضغط. ورغم أن اغتيال الزعيمين اليساريين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، زاد القوى المتمسكة بالديمقراطية والدولة المدنية إصراراً على المقاومة، بقيت حركة «النهضة» في حالة مراوحة لعدة شهور. فكان تحركها خطوة إلى الأمام يعقبه تراجع للوراء، إلى أن تبين لها أن هذا الطريق قد يقودها إلى نهاية مؤلمة، خاصة بعد أن صار واضحاً أن جماعة «الإخوان» في مصر لم تفقد السلطة فقط بل خرجت من المشهد السياسي بشكل كامل أيضاً. ويبدو أن قيادة «النهضة» لم تحسم أمرها باتجاه الاستجابة لمطالب المعارضة إلا بعد أن تأكدت من فشل جماعة «الإخوان» في عرقلة المسار السياسي الجديد في مصر. فقد ظلت تراهن على شعار «الشرعية الانتخابية»، وتدفع أعضاءها لرفعه في تظاهرات مضادة لتحركات المعارضة، حتى نوفمبر الماضي. لكنها اضطرت في النهاية إلى تقديم التنازلات الضرورية التي رفض قادة جماعة «الإخوان» في مصر الإقدام على مثلها. فكان على حركة «النهضة» أن تقبل تشكيل حكومة مستقلة تحل محل حكومة الترويكا الائتلافية التي كان على رأسها أحد أبرز قادتها. وحصلت الحكومة الجديدة على ثقة المجلس التأسيسي بالتزامن مع مصادقة هذا المجلس على النسخة النهائية للدستور بعد مخاض استمر لأكثر من عامين. ويختلف هذا الموقف جذرياً عن مسلك جماعة «الإخوان» التي أصرت على استمرار حكومة هشام قنديل رغم فشلها الواضح وليس فقط اعتراض القوى المدنية الديمقراطية وسخط قطاعات متزايدة من الشعب بسبب أدائها. كما كان على «النهضة» أن تقدم تنازلات في موقفها تجاه الدستور. وقد أبدت مرونة لافتة للانتباه في الأسابيع الأخيرة. فقد ألزمت نوابها في المجلس التأسيسي بالاقتراع لمصلحة حرية العقيدة والضمير وتجريم التكفير. وتراجعت عن إصرارها السابق على اعتماد نظام حكم برلماني يكون منصب الرئيس فيه شرفياً بعد أن «قاتلت» من أجل إرسائه لما يقرب من عامين، حيث وافقت في النهاية على نظام شبه رئاسي. كما تخلت عن سعيها السابق إلى تقييد استقلال القضاء، بدعوى عدم تحويله إلى دولة داخل الدولة، بعد أن صممت المعارضة وأصر القضاة على ضمان هذا الاستقلال. ولا يخفى أن هذه التنازلات أثارت، ومازالت، غضباً في أوساط قطاعات يُعتد بها من قواعد حركة «النهضة»، وليس فقط لدى الجماعات المرتبطة بها مثل «لجان حماية الثورة» وغيرها. فقد تعرضت قيادة «النهضة» لانتقادات متفاوتة من داخل الحركة ومحيطها تدور حول اتهامها بالتخلي عن «شرعية الصندوق» والرضوخ لما يعتبره الغاضبون ابتزازاً على نحو أدى إلى هزيمة الحركة سياسياً رغم انتصارها انتخابياً. وقد تبنى الغنوشي في رده على هذه الانتقادات موقفاً لم يسبقه إليه أي من قادة جماعات وتنظيمات «الإخوان» من قبل، عندما قال إن «النهضة» ليست مهزومة مادامت تونس هي الرابح الأول من التنازلات التي قدمتها. وهذا موقف مخالف جوهرياً لذلك الذي تبناه قادة «الإخوان» في مصر. وكذلك الحال بالنسبة إلى تمييزه الذي لا يعترف به هؤلاء بين خسارة السلطة وتعريض البلاد للخطر: «نحن إذا خسرنا السلطة سنعود إليها، لكن إن خسرنا أمن تونس واستقرارها فقد لا تسهل إعادتها». غير أنه حين يواصل الغنوشي دفاعه عن «إخوان» مصر رغم هذا كله وبعده، ويستمر في مهاجمة المسار الانتقالي الذي اختاره معظم المصريين حتى لا يخسروا أمن بلدهم واستقرارهم، لابد أن يثير هذا التناقض الشك ويفرض التساؤل عما إذا كان موقفه المعتدل هذا قابلا للاستمرار حال زوال الضرورة التي أملته؟