بعد أن طوى العالم معظم تداعيات الأزمة المالية العالمية بكل مآسيها، وبعد أن اتضحت الكثير من المعالم الخفية لعالم المال والأعمال وتقلصت إلى حد كبير عمليات المضاربات والزيادات المصطنعة للمشتقات المالية والتلاعب بأسعارها، برزت في الآونة الأخيرة أساليب أخرى من الفقاعات والتي يرمى من خلالها إلى تعظيم الثروات بصفقات وهمية وخدع جديدة. وضمن هذا الاتجاه برزت في الفترة الأخيرة عملة وهمية تسمى «بيتكوين» تتداول من خلال الإنترنت فقط، ابتدأ سعرها من عدة سنتات ليرتفع إلى 13 دولاراً في بداية العام الماضي 2013 وليقفز مع بداية العام الحالي 2014 إلى ألف دولار، وبالأخص بعد أن اتسع نطاق تداولها من خلال الشبكة العنكبوتية. وعلى الرغم من أنها عملة رقمية لا وجود مادي لها ومن غير المعروف من يتحكم في إدارتها وتحديد مستوياتها، إلا أنها تنتشر بصورة سريعة إلى درجة أنه تم وضع ماكينات صراف آلي خاصة بتداولها في بعض البلدان الأوروبية، مما ينذر بعملية تلاعب كبرى قد يدفع ثمنها ملايين من الأشخاص الباحثين عن الربح السريع. ويبدو للوهلة الأولى أن هناك جهات مرتبطة بغسيل الأموال وتجارة المخدرات وجهات أخرى تدور حولها علامات استفهام كثيرة تحاول استغلال مثل هذه العملات الوهمية لتبييض الأموال والدفع باتجاه منح هذه التعاملات الصفة الشرعية من خلال ربطها بتعاملات تجارية ومالية كبرى تساهم فيها بعض البنوك الدولية. الأمر المقلق أن التعاملات بهذه العملة الوهمية تزداد وتنتشر بصورة مخيفة ويندفع نحوها مئات المتعاملين يومياً، مما قد يحدث كارثة لمدخرات الأفراد ويؤثر بصورة سلبية على اقتصادات بعض البلدان، وبالأخص الصغيرة والضعيفة منها، مما قد يؤثر على اقتصادات بقية بلدان العالم، وذلك إذا ما اتسع نطاق التعامل معها بسبب التسهيلات المتوافرة في الوقت الحاضر. من الواضح أن البلدان الكبرى في الغرب والفاعلة اقتصادياً تغض النظر عن التعاملات بهذه العملة، مما يثير الاستغراب، إذ أن متابعة هذه التعاملات من خلال الإنترنت، ومحاولة الوصول إلى مركز إصدارها ووقف التعامل بها ليس بالأمر الصعب على هذه البلدان التي تراقب عن كثب وبشكل يومي كافة مراسلات الإنترنت. أما لماذا يتم التغاضي عن ذلك، فإن هذا السؤال المحير يشير إلى أي مدى تمكنت بعض الجهات المالية الكبرى من الهيمنة والتحكم في سير التعاملات حول العالم والانتقال من أسلوب إلى آخر للاستحواذ على أموال طائلة من خلال تعاملات وهمية، ابتداءً من تعظيم قيم المشتقات المالية التي أحدثت الأزمة المالية العالمية، وليس انتهاء بعملة «البيتكوين». وفي الوقت نفسه تقف البنوك المركزية حائرة أمام هذا الأمر الذي يتحرك مثل الشبح من خلال الإنترنت، وذلك لاستحالة التحدث مع أية جهة بشأنها، إلا أن السماح باستمرار التعامل بها وربط صفقاتها بالنظام المالي والنقدي الدولي يعتبر أمراً ضاراً وخطيراً يمكن أن يؤدي إلى المزيد من الفقاعات والأزمات والاستحواذ على المدخرات ونقلها من بلد إلى آخر من خلال هذه التعاملات. ومع ذلك، هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق البنوك المركزية وشركات الاتصالات في المنطقة للعمل على وقف التعامل بهذه العملة الوهمية لحماية الأنظمة المالية والأفراد من عمليات احتيال محتملة، خصوصاً وأن بعض حاملي جائزة نوبل في الاقتصاد حذروا مؤخراً من فقاعة جديدة تصاحب التعامل بعملة «بيتوكين» والتي رأوا ضرورة عدم التعامل مع مروجيها. ندرك جيداً أنه من الصعب إقناع الكثيرين بالابتعاد عن هذا النوع من التعاملات المالية والنقدية، فالأرباح السريعة والكبيرة مغرية، إلا أنه عندما تنتهي الحفلة ستكون الآلام موجعة كثيراً، مما يتطلب على أقل تقدير الحد من التعاملات بهذه العملة ومحاصرتها، والأهم من ذلك توعية الناس بمخاطرها على استثماراتهم ومدخراتهم. د.محمد العسومي