تمثل محاصيل الذرة وفول الصويا والقمح أهم المنتجات الزراعية في الولايات المتحدة. إلا أن القمح يختلف عن المحصولين الآخرين في ناحية مهمة؛ ففيما يتم استغلال 90 بالمئة من المساحات المخصصة لزراعة الذرة وفول الصويا بالاعتماد على البذور المُهندسة وراثياً، حتى تتمكن من مقاومة الحشرات والأعشاب الطفيلية الضارة، لا يوجد حتى مساحة «أكر» واحد (الأكر يساوي 4000 متر مربع) مزروعة ببذور القمح المُهندسة وراثياً في الولايات المتحدة كلها. ويتكبد مزارعو القمح الكثير من الخسائر نتيجة ذلك الوضع، ويعاني منه أيضاً مستهلكو الخبز والباستا الذين يدفعون أسعاراً أعلى مما يجب أن يدفعوه لأن المساحات المزروعة بالقمح تتضاءل بشكل متواصل. ومن دون الاستعانة بفوائد التقنيات الحديثة للهندسة الوراثية، فإن صناعة القمح الوطنية سوف تواصل انحسارها أمام بعض المحاصيل الزراعية الأخرى التي تبنّت تطبيقات التكنولوجيا الحيوية، وأيضاً بسبب الجفاف الذي يضرب منطقة الغرب الأميركي منذ عدة أعوام. ويحدث كل هذا في وقت يزداد فيه عدد سكان العالم ويتعاظم فيه الطلب على القمح. والسؤال المطروح الآن: لماذا تم استثناء القمح من تقنيات الهندسة الوراثية؟ يعود أحد الأسباب إلى أواسط التسعينيات عندما رحّب مزارعو الذرة وفول الصويا، بدافع الطمع الشديد، بالثورة التقنية البيولوجية التي كانت حديثة النشأة في تلك الأيام، وتمكنوا من الحصول على بذور مهندسة وراثياً متنوعة الخصائص، إلا أن مزارعي القمح لاحظوا الارتفاع الكبير في أسعار تلك البذور الجديدة وتخوّفوا من المواقف الرافضة للمحاصيل المهندسة وراثياً والتي أبداها شركاؤهم التجاريون الذين أبدوا قلقهم من تأثير هذه «السمعة» على الصادرات فقرروا عدم الالتفات إليها. واليوم، بات من السهل فهم السبب الذي مكّن مزارعي الذرة وفول الصويا من تحقيق قفزتهم الواسعة. فقد ارتفع إنتاج المحصولين، وتمكن المزارعون من توفير استخدام المبيدات الحشرية الكيميائية، وأصبحت الأراضي أقل تعرضاً لهجوم الأعشاب الطفيلية الضارة، وتمكنوا بذلك من كسب المزيد من الأموال. وفي المقابل، وخلال الفترة ذاتها، انحسرت مساحات الأراضي المزروعة بالقمح بمعدل 20 بالمئة. ورغم أن إنتاجها ارتفع، إلا أن تزايد معدل الإنتاجية كان أضعف من ذلك الذي سُجّل في حالة الذرة وفول الصويا المهندسة وراثياً. وقالت مصادر شركة «مونسانتو» التي تُعدّ رائدة علم الهندسة الوراثية الزراعية في العالم، إنها حققت مؤخراً تقدماً كبيراً في تخليق وتطوير قمح ذي قدرة عالية على مقاومة الأعشاب الضارة. وأضافت تلك المصادر قولها إن بذور القمح الجديدة المعدلة وراثياً سوف تتيح للمزارعين توفير الأموال وستكون جاهزة للبيع على المستوى التجاري خلال السنوات القليلة المقبلة. إلا أنه من الضروري أولا أن تعمد حكومة الولايات المتحدة للموافقة عليها وإعطاء الضوء الأخضر لشرعية استزراعها. ومن المعلوم أن الجهات الحكومية المتخصصة تضع الكثير من العراقيل أمام هذا النوع من تطبيقات الهندسة الزراعية من دون الاحتكام إلى مبررات علمية مقنعة. ومن أهم الأسباب الأخرى التي تجعل القمح مختلفاً عن بقية المحاصيل الزراعية، هو أن الذرة وفول الصويا تستخدم بشكل أساسي في تغذية الحيوانات، أو تتم معالجتها بيولوجياً (بطريقة التخمير) وتحويلها إلى وقود حيوي («الكحول الإيثيلي» أو «الإيثانول»)، أما القمح فيستهلك من طرف البشر بشكل أساسي وخاصة في صناعة الخبز والباستا. وهذا ما يفسر سبب انتشار المخاوف من أن يعاني القمح المهندس وراثياً من صعوبات في التصدير. وتستورد الدول الأوروبية واليابان نحو 15 بالمئة من صادرات القمح الأميركية. إلا أن هذه الدول لا تزال تبدي مخاوفها من المحاصيل المهندسة وراثياً والمواد الغذائية المصنوعة منها. ونتيجة لكل ذلك، ربما يكون مزارعو القمح قد خسروا أهم العوائد الربحية الكامنة في الهندسة الوراثية. فلقد حُرموا من استزراع المحاصيل المُطوّرة القادرة على تحدي الجفاف أو النمو تحت ظروف يتوافر فيها القليل جداً من المياه، بالإضافة لخسارتهم لإنتاجيتها العالية والتي يمكنها أن تجتذب اهتمام أكبر عدد من المزارعين. ويأتي معظم إنتاج الولايات المتحدة من القمح من السهول الوسطى. وتعاني تلك المنطقة من جفاف متزايد دفع الخبراء إلى التحذير من أنه خلال السنوات الخمسين المقبلة لن تحتفظ إلا بنسبة 30 بالمئة من مياهها المحجوزة في آبارها الارتوازية. وهذا يعني أيضاً أن المزارعين الذين يعتمدون على طريقة الري سوف يواجهون إجراءات متزايدة الصعوبة لتقنين استخدام المياه أو لتغيير نوعية نشاطاتهم الزراعية. وكان لسنوات الجفاف المتعاقبة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية أن تسرّع من ظاهرة تناقص الخزين المائي للآبار الارتوازية. ورغم أن الأحوال تحسنت قليلا خلال آخر فصل لزراعة القمح الشتوي، فإن معظم أراضي منطقة السهول الوسطى ما زالت تعاني من ظاهرة الجفاف. ولهذه الأسباب مجتمعة، يمكن القول إن استزراع الأنواع المختلفة من المحاصيل الجديدة التي يمكنها النمو تحت ظروف استثنائية من نقص المياه أو الجفاف المزمن، يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإنتاج والإنتاجية. وتم أيضاً تخليق بذور مُهندسة وراثياً لمحاصيل قادرة على النمو بوجود مياه ذات نوعية سيئة (غنية بالأملاح أو المواد الضارة). وفي مصر على سبيل المثال، أثبت الباحثون خلال العقد الماضي أن نقل مورّثة منفردة (جينة واحدة) من بذرة شعير إلى بذرة قمح، تجعل نبات القمح الناتج أكثر قدرة على تحمل الجفاف لمدة أطول. ولابد من استغلال هذه الخصائص الجديدة للقمح المهندس وراثياً خاصة بسبب التغير المناخي الذي يشهده العالم وكثرة الطلب على هذا المحصول الحيوي. جيسون لوسك أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة ولاية أوكلاهوما هنري ميلير طبيب وزميل محاضر في «معهد هوفر» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»