أثار استيلاء ادوارد سنودن على آلاف الوثائق فائقة السرية من وكالة الأمن القومي الأميركية ونشرها في الصحافة، جدلا حاداً حول هذا الرجل. فهناك من يشيدون به كشخص يبلّغ عن خروقات العمل، ويرون أنه شخص «قدّم خدمة كبيرة لبلاده». أما سنودن فيقول إنه «أتم مهمته»، وحاول إفهام الأميركيين «الطريقة التي يحكمون بها» ونجح في فضح «دولة المراقبة» الجامحة. لكن هل تتفق تصرفات سنودن مع كلماته؟ لقد اتخذ سنودن من روسيا ملاذاً له، وهي الدولة التي جسدت، أثناء الحكم الشيوعي، فكرة دولة المراقبة، والتي عملت بدأب من خلال الشرطة السرية (الكي جي بي) على رصد ومراقبة الشعب. واليوم، تعتبر روسيا دولة شبه ديمقراطية احتفظت ببعض ملامح ماضيها الشيوعي. وخلال العقد الماضي، وبمقتضى إرشادات بوتين، ضابط المخابرات السابق، أصبحت تنزلق تدريجياً نحو الحكم الاستبدادي. ويتم الاحتفاظ بهذا المذهب السلطوي جزئياً من قبل نظام المراقبة الداخلية. وقد قام صحفيان روسيان يتصفان بالجرأة، هما أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان، في خريف 2013، بتفسير قضية صحيفة «وورلد بوليسي جورنال» والأسلوب الذي تعمل به. وأوضحا أن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذي خلف «الكي جي بي»، قام بالاستثمار في التكنولوجيا التي تتيح له مراقبة الاتصالات الهاتفية والإنترنت وجمع وتخزين ليس فقط البيانات الوصفية (أو الخلفية) -وهي معلومات حول وجهة ومدة المكالمات- ولكن أيضاً فحوى الاتصالات. وتقوم روسيا باستخدام هذه التكنولوجيا للرقابة على المكالمات الهاتفية، والبريد الإلكتروني، والمدونات، ولوحات الإعلانات عبر الإنترنت، وكذلك المواقع الإلكترونية. تلك المراقبة الممتدة ليست التهديد الوحيد للحرية في روسيا. فمنظمة «فريدم هاوس»، المعنية بأبحاث الديمقراطية والحرية السياسية، تذكر أن حرية الصحافة تقع تحت تهديد خطير هناك. فمن جانب، تستخدم السلطات سيطرتها على وسائل الإعلام للانخراط في «الدعاية الصارخة» التي تمجد قيادة الكرملين، ومن جهة ثانية تشارك الحكومة في ترويع المنتقدين وقمع الآراء المخالفة لها. إن وضع الحرية المحفوف بالخطر في روسيا لم يعد سراً اليوم، ولم يكن كذلك عندما اختار سنودن السفر إلى موسكو، الصيف الماضي وطلب اللجوء السياسي. وإذا كان سنودن يهدف إلى فضح المراقبة الشاملة، فبإمكانه التحدث عن ممارسات الحكومة الروسية، والتي تتجاوز أي خطأ اقترفته الحكومة الأميركية. وقد أصبح لسنودن أتباع كثر حول العالم؛ فكلماته يستمع إليها الملايين، لكنه آثر الصمت حيال ممارسات أجهزة الدولة القمعية المحيطة به. فهل ذلك لأنه يفضل أن يكون مهذباً بالنسبة لدولة استضافته؟ أم أن لديه مخاوف فيما يمكن أن يقوم به جهاز الأمن الفيدرالي الروسي رداً على ما قد يتفوه به؟ أياً كان الجواب، فإن صمت سنودن دليل على أنه يخشى العدالة الأميركية بدلا من كونه قائلا شجاعاً للحقائق. وقد كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن سنودن استولى على نحو مائتي ألف وثيقة سرية من وكالة الأمن القومي عبر برنامج كمبيوتري رخيص ومنتشر، وكان من المفترض كشفه. لكن حين تم استجوابه قدّم إجابات وصفها المحققون بأنها منطقية للأنشطة التي كان يقوم بها كمسؤول عن صيانة شبكة الكمبيوتر الدورية، إذ كان من الطبيعي أن يقوم بنسخ ونقل المعلومات إلى شبكات داخلية. ------- جابرييل شونفيلد زميل بارز في معهد هدسون بنيويورك ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»