العثور اليوم على باقة ورود حمراء في السوق شبه مستحيل، وغداً «يوم الحب» (فالنتاين) مستحيل، ليس الحب بل الورد الأحمر. عرفتُ ذلك قبل سنوات عندما لم أعثر في «يوم الحب» إلا على باقة ورد أصفر، والأصفر لون الغيرة، ووقعتي «صفراء»، لم ينقذني منها سوى شيطان الشعر العراقي. كتبتُ على بطاقة التهنئة: «آني كان لوني أحمَرْ، بَسْ العِشِقْ مًرْ وخلاّني أصفَّرْ، ليش يا عِشِقْ؟». و«ليش» يا عِشِقْ اقتَنَصتني ليلة «يوم الحب» في «كمّاشة» زحام السيارات في ساحة «هامرسميث» بلندن. أفزعني لحظتها الكاتب العراقي الساخر قريبي خالد القشطيني، الذي فسّر سبب النحس بين الرجال والنساء «لأن نساءنا لسن نساءنا الأصليات». وأشعر حتى اليوم بالوحشة والضياع كلّما أتذكر فحيح صوته وهو يخبرني أن نساءنا الأصليات أبادهن وباء كاسح، واضطر أجدادنا إلى غزو قبائل إنسان «النياندرثال»، وإبادة رجالهم وسبي نسائهم. ومن يومها وامرأة «النياندرثال» لا تتفاهم، وكلمة «لأ» عندها تسبق «نعم». وحتى عندما توافقنا تقول «لأ، نعم». وعندما نرجوها أن تفهم «كلامنا الواضح كهذا النهار»، تغمض عينيها بشدة، وتجيبُ وأجفانها ترتعش: «لأ. ليل أظلم»! «أفاطمُ مهلا بعض هذا التدللِ. أغرّك مني أن حبك قاتلي. وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ. وأنكِ قسّمتِ الفؤاد فنصفه قتيلٌ ونصفٌ بالحديد مُكبّلِ». ومن يفعل هذا بملك الشعراء العرب، امرؤ القيس غيرُ امرأة «نياندرثال» إذا صحت نظرية القشطيني. الاكتشافات الجديدة حول تزاوج أجداد البشر مع «النياندرثال» لا تتطرق إلى نسائهم. دراستان منفصلتان قام بهما علماء في «جامعة هارفرد» و«معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية» في ألمانيا، عثرتا أخيراً على أدلة جينية «موَرِّثات» في جسم البشر تثبت تزاوج أجدادنا مع «النياندرثال» قبل نحو 50 ألف عام، وتُرَّجحُ حدوث التزاوج في آسيا وأوروبا، حيث عاش «النياندرثال» قبل أن تجتاحهم طلائع البشر القادمين من موطنهم الأصلي في أفريقيا. والبشر جميعاً أصلهم من أفريقيا، وجينات «نياندرثال»، التي عُثر عليها في أجسام البشر الحاليين تجعلهم أكثر تكيفاً مع البيئة، وتعزز مناعتهم ضد الإصابة بأمراض معينة، بينها السُّكري، وبعض الأمراض الجلدية. وتتوافر أدلة آثارية على نتائج الفحوص الجينية، حسب بول ميلارز، أستاذ الآثار في جامعة كيمبردج، والذي أضاف مداعباً: «أجداد البشر الحاليين القادمين من أفريقيا كانوا سيعثرون بسهولة على نساء النياندرثال في كل شارع وزاوية من أوروبا»! و«النياندرثال» أقرب الكائنات الحية للبشر، ولهم جد مشترك اختفى قبل 600 ألف عام. وبيّنت نتائج البحث المنشور في مجلة «نيتشر» العثور على كميات قليلة من جينات «النياندرثال» في الحمض النووي للبشر، وهو مادة جينات جميع المخلوقات. سبب ذلك، حسب ديفيد ريتش، الباحث في كلية الطب بجامعة هارفرد، «أن بعض جينات النياندرثال مرّت عبر عملية الانتقاء الطبيعي التي أبقت على المفيدة منها». ويرجح الباحثون أن «الجينات تطورت لمساعدة جلد البشر للتكيف مع الجو البارد في أوروبا. وللجلد وظائف مهمة لم تُكتشف بعدُ أسسها البيولوجية، من بينها حمايتنا من الجراثيم». وكلا الدراستين وجدتا أن جينات «نياندرثال» اصطفتها عملية الانتقاء الطبيعي في بشرة البشر وشعرهم! «كأنّ بها طيباً وإنْ لم تطيّبِ». قال ذلك امرؤ القيس، واستبق به قبل 15 قرناً اكتشاف العلماء العلاقة الحميمية بين الفن والحب والجمال والدماغ. ذلك لأن موقع الحب ليس في العين، أو الأنف، ولا في القلب، بل في الدماغ. عثر على هذه المواقع عالم عربي من أب مصري وأم لبنانية يُعتبر من أبرز علماء بيولوجيا الأعصاب المعاصرين. سمير زكي، أستاذ «الجماليات العصبية»، وهو العلم الذي أسسه بنفسه في «كلية لندن الجامعية»، أثبت العلاقة الحميمة بين وظائف الدماغ الأساسية وأسمى تجارب الإنسان، كالفن والحب. وعثر زكي على الموضع المشترك للإحساس بالجمال والحب وسط لحاء الجبهة المدارية للدماغ، ومكانها خلف العينين مباشرة، واستخدم أحدث أجهزة مسح وتصوير الدماغ في رصد كيف تضيء هذه المواضع لحظة الانتشاء بالفن وبالجمال وبالحب. ويجابه زكي، الحائز على «جائزة الملك فيصل العالمية» للعام 2004، بطريقة تجريبية، أسئلة الفلاسفة الدائمة حول ماهية الجمال، وما المشترك بين كل ما يُعتبر جميلا. ويجد الجواب على هذه الأسئلة بالنظر في ما يحدث داخل الدماغ. والدماغ «فيه ما فيه»، حسب عنوان قصيدة مشهورة للشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، والرومي أحد أبرز الشعراء الذين يبحث زكي أعمالهم، ليس للكشف عن أسرار الإبداع الفني، بل عن أسرار الدماغ، وبينهم امرؤ القيس، وابن العربي، والحلاج، ومجنون ليلى، وحافظ الشيرازي، ودانتي، وغوته، وشكسبير، وبودلير، ورامبو. ومن الفنانين رمبراند، ومايكل أنجلو، ورافاييل، وسيزان، ومانيه، ومونيه، وبيكاسو، وماتيس، وسلفادور دالي، ومن العلماء والفلاسفة أفلاطون، وكانْط، وشوبنهاور، ونيتشه، وداروين، ونيوتن، وفرويد. وشارك زكي في معارض للرسم، ودراسة الألوان، وهي كالحب مكانها في الدماغ. معرض «أبيض على أبيض» في لندن، استكشف وشائج الفن والحب والجمال، التي تُعتبر عموماً مفاهيم مجردة، بمواقع محددة في الدماغ. ورصد زكي كيف «بلغ الجنس البشري في هذه الحالات ذروة البهجة وانحدر إلى قاع اليأس، وأبدع أثناء ذلك أعمال الفن والأدب والموسيقى، التي لم تصبح فقط ذخائر ثمينة لمتعتنا، بل لفهم نفوسنا أيضاً». و«تحمل مباحث الدماغ الوعد العظيم بإقامة الجسر بين العلوم المعنية بطبيعة الحياة والكون، وعلوم الإنسانيات المهتمة بطبيعة الوجود البشري. و«لن نجد أحداً أفضل من سمير زكي في تجسير هذا الانقسام»، حسب إيريك كيندل، أستاذ علوم الدماغ في «جامعة كولومبيا» بنيويورك. وتناول زكي في كتابه الصادر بالإنجليزية «روائع وتعاسات الدماغ» مسائل «الحب، والإبداع، والتوق البشري للسعادة». وتعاسات الدماغ هي الثمن الذي يدفعه الإنسان عن قدرة دماغه الهائلة على التقصي والبحث. وارتباط الحب بالموت يمتد كشفرة سكين من العشق الصوفي بالذات «المقدسة»، وحتى الموت طوعاً في العمليات الانتحارية. وبرهن زكي على أن «الدماغ يمثل النصر الهندسي العظيم للأعصاب، والذي لا حد لقدرته على البحث عن المعرفة في المفاهيم المجردة». وعلوم زكي نفسه تجدد انتصار الدماغ العربي الذي جمع بين العلوم والفنون في أروع حضاراته العالمية. ورغم بحث زكي جميع أنواع الحب لا ذكْر في مؤلفاته وأبحاثه لامرأة «النياندرثال» التي أفزعني بها القشطيني «يوم الحب»، أو امرأة الشاعر ابن المعتز التي جاءها «إذا الليل أدجى وارجحنَّت كتائبُه»، وكان أقصى انتقامها، حسب اعتراف ابن المعتز: «إذا رَغَبَتْ عن جانبٍ مِن فراشها تَضَوَّع مِسكاً أين مالت جوانبُه»! *مستشار في العلوم والتكنولوجيا