عندما نظمت روسيا -أيام الاتحاد السوفييتي السابق- دورة الألعاب الأولمبية في عام 1980 قاطعتها كل من ألمانيا والولايات المتحدة مع عدد من الدول الأوروبية. هذه المرة لم تقاطع أي دولة دورة الألعاب الشتوية التي بدأت في السابع من هذا الشهر فبراير في مدينة سوتشي. الذي قاطعها هو الرئيس الأميركي أوباما شخصياً. وكانت مقاطعته -وهو المعروف بطول النفس السياسي- تعبيراً عن اعتقاده باستحالة التفاهم مع الرئيس الروسي بوتين. وقد لخص بوتين نفسه أسباب عدم التفاهم مع أوباما بقوله: «إنني لا أوافق على آرائه.. وهو لا يوافق على آرائي». وقد تبوأ بوتين عرش الكرملين في ديسمبر من عام 1999، وهو لا يزال يتربع على هذا العرش بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة (عبر رئيس الحكومة مدفيدف). وخلال هذه الفترة الطويلة والمستمرة، اجتمع مرتين بالرئيس أوباما، وفي الاجتماعين كانت النتيجة صفراً. عقد الاجتماع الأول في منتصف عام 2012 في المكسيك خلال قمة «العشرين». وعقد الاجتماع الثاني في العام الماضي في شمال إيرلندا خلال قمة الثماني. وتعكس صورة لقاء الرئيسين عمق عدم الانسجام بينهما. فقد بدا كل منهما عابساً متولياً عن الآخر. وقد أوحت تلك الصورة وكأن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي قد عادت إلى نقطة البداية. وهناك مؤشرات عديدة على ذلك، لعل من أبرزها توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً وانضمام دول أوروبية كانت أعضاء في حلف وارسو إلى الحلف الأطلسي وهو أمر يعتبره الكرملين خطراً على الأمن الروسي الاستراتيجي. في ديسمبر من عام 1991 سقط الاتحاد السوفييتي، غير أن تبوؤ بوتين عرش الكرملين وهو الذي كان يشغل منصباً قيادياً في جهاز المخابرات السوفييتية «كي.جي.بي» أبقى على الروح السوفييتية ولو من غير شيوعية. ويؤكد ذلك ما قاله بوتين نفسه من أن «سقوط الاتحاد السوفييتي يشكل أكبر كارثة سياسية شهدها القرن العشرون». ولذلك كان الشغل الشاغل لبوتين هو استعادة الدور الاستراتيجي لموسكو. فكان تصديه لتوسع حلف الأطلسي، إلى حد اتخاذه مبادرة عسكرية ضد جورجيا في عام 2008. والجيش الروسي 58 الذي خاض تلك المعركة ونجح فيها، هو الذي يتولى المحافظة على الأمن في سوتشي حيث تجري دورة الألعاب الشتوية. ويبلغ عدد أفراد هذا الجيش مئة ألف رجل، بينما لا يزيد عدد سكان المدينة على أربعمائة ألف. أي أن ربع السكان هم من القوات العسكرية التي تتولى حفظ الأمن فيها، تضاف إليهم ولأول مرة في تاريخ الألعاب الأولمبية طائرات من دون طيار للمراقبة.. وحرس سواحل مزودين بالغواصات وبسفن حربية وحتى بشبكة من قواعد الصواريخ المنتشرة في تلال المدينة. فبعد سلسلة التفجيرات الإرهابية التي وقعت في سوتشي، لا تتحمل موسكو ولا بوتين شخصياً، أي اضطراب أمني من شأنه أن يشوه صورته بوصفه «بطلاً قومياً». فقد أنفق على إقامة الملاعب الرياضية الشتوية ما مجموعه 50‏? ?مليار? ?دولار? ، ?وهو? ?أعلى? ?رقم? ?عرفته? ?أية? ?دولة? ?قامت? ?بتنظيم? ?دورة? ?ألعاب? ?أولمبية? ?حتى? ?الآن??.? ?ويزيد? ?هذا? ?الرقم? ?بنسبة? أربعة? ?أضعاف? ?عما? ?أنفقته? ?بريطانيا? ?على? ?دورة? ?الألعاب? ?التي? ?نظمتها? ?في? ?لندن? ?في? ?عام? 2012. لا تشكو روسيا من قلة مالية. فعائداتها من النفط والغاز توفر لها دخلاً عالياً، حتى أن مستوى الدخل الفردي ارتفع من حوالي 18 ألف دولار في عام 2000 إلى حوالي 30 ألفاً في عام 2013. وهذا ما يفسر سر شعبية بوتين. ويعود الفضل في ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط وليس إلى تطور الاقتصاد الروسي. فالعائدات من النفط تشكل 75 في المئة من الحجم الكلي للصادرات. ثم إن 45 في المئة من حجم الاستهلاك داخل روسيا مستورد من الخارج. وتعكس هذه الحقيقة أرقام التبادل التجاري مع الصين التي تبلغ 87 مليار دولار فقط على رغم الحدود المشتركة بينهما، وبالمقارنة فإن أرقام التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة اللتين يباعد بينهما المحيط الباسيفيكي وصلت إلى 555 مليار دولار في العام الماضي. ومن هنا فإن أي تراجع في أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية من شأنه أن يوجه ضربة مؤلمة للاقتصاد الروسي.. وبالتالي لشعبية بوتين! لقد تمكن بوتين بفضل هذه الشعبية من قمع حركة التمرد الشعبي التي قامت ضده. حتى أنه أعاد للكنيسة الروسية دورها السابق، إنما تحت مظلته. ومن خلال هذا التحالف الثلاثي الكرملين -الكنيسة -والأكثرية الشعبية، يتصرف بوتين باستعلاء على النحو الذي فعله في مؤتمر قمة حلف الأطلسي في بوخارست في عام 2007 عندما هدد الحلف بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ثم ترجم تهديده في العام التالي 2008 في جورجيا. وهو يتمسك بمواقف مخالفة للمواقف الأميركية من قضايا إيران وسوريا وقبل ذلك ليبيا. ومن آخر المواقف المخالفة التي اتخذها تلك التي تتعلق بالأحداث المتفجرة في أوكرانيا وفي منح اللجوء السياسي لأدوارد سنودن الذي كشف أسرار التجسس الأميركي على دول العالم بما فيها الدول الحليفة للولايات المتحدة. ويتطلع بوتين إلى تحقيق انتصار في أوكرانيا بمنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (ومن ثم إلى حلف شمال الأطلسي) ولحمل الولايات المتحدة على الخضوع لهذا الأمر الواقع كما خضعت للأمر الواقع الذي فرضه عليها في قضية الملف النووي الإيراني.. والذي يحاول أن يفرضه عليها أيضاً في قضية الملف السوري. لا شك في أنه من حسن حظ بوتين أن في البيت الأبيض بواشنطن رئيساً تتسم مواقفه بالتردد والمهادنة وحتى بالانكفاء.. وهو ما يشكل قوة دفع إضافية للرئيس الروسي، وقد شكلت دورة الألعاب الشتوية في سوتشي مسرحاً لعرض عضلات هذه القوة. وتتعامل الولايات المتحدة مع هذه القوة على أنها قوة وهمية. وتبني هذا الاعتبار على عدة أمور، منها أن الاقتصاد الروسي ينمو بنسبة 1,5 في المئة فقط وأن حوالي 40 في المئة من الروس يعتمدون كلياً في دخلهم على الدولة. وهذا يعني أن مجرد تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية سيجرد الدولة من جزء كبير من دخلها مما ينعكس على دخل مواطنيها.. وبالتالي على شعبية بوتين. ومنها أيضاً أن شعوب الدول الأوروبية (الشرقية) المتاخمة لروسيا ضاقت ذرعاً بالهيمنة الروسية وأنها لن تستسلم لها، على النحو الذي تعكسه الأحداث في أوكرانيا وقبلها في جورجيا والذي تعكسه أيضاً مواقف بولندا التي وافقت على إقامة شبكة الصواريخ الأميركية الموجهة إلى روسيا. ومن هنا لم تكن «سوتشي» ملعباً رياضياً أولمبياً فقط، ولكنها كانت مسرحاً لعملية مواجهة سياسية خلف شعار الأولمبياد الدولي!