لعل هذا هو أفضل وصف وجدته لأصف به الشباب الذي خرج وأسقط أنظمة عاتية في بعض جمهوريات ما سمي «الربيع العربي». وقد احتفلت مصر بثورة يناير وما زالت بعض من ملامحها ملتبسة، إلا أنها ظاهرة اجتماعية تستحق مزيداً من البحث. فمما يميز الأحداث لبساً أنها لم تكن متوقعة كما حدث في الثورة البلشفية أو الصينية، ولم يتم الإعداد أو التنظير لها، ولذلك فقد حدثت على حين غفلة، ومنظموها كانوا من الشباب المفتون بالمعلوماتية الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي. وهي عارية فعلاً في مواجهتها لبطش السلطة بكل ما تملكه من أسلحة خفيفة وثقيلة، إلا أنها كانت قد كسرت حاجز الخوف وتصدت للتغيير وأسقطت أنظمة لم يكن متوقعاً تغييرها. وهناك لوحات غريبة عندما نسترجعها تهز البدن والعقل وقد تجعلنا نفكر في كيفية فهم ما حدث، ولماذا حدث؟ صورة الشباب في تونس وهم يتصدون للرصاص الحي وصدورهم عارية يقبلون على الموت لأجل الحرية والكرامة. وقد كتب الصحفي الفرنسي جان دانيال في افتتاحية أسبوعية «لونوفل أوبسرفاتور» يقول «ما يثير الانتباه أكثر من غيره في هذه الانتفاضات بأيادٍ عارية، والتي يخوضها ثوار الربيع العربي، هو أنهم لم يستعملوا الأسلحة، وفي ليبيا بالخصوص هم يعرضون صدورهم للرصاص». ومع أن الصورة ما زالت مبهمة في جمهوريات الحراك العربي إلا أن غموضها لا يعني تراجع الشباب عن مطالبهم الإنسانية، وإن كانت هناك توجهات تود عدم التغير والعودة إلى المياه الراكدة الهادفة إلى عزل تلك الجمهوريات عن أي تغير تحكمه القوانين الإنسانية. وببساطة، فالإنسانية باختلاف ثقافتها تحكم بقاعدة بسيطة تتجسد في أن الإنسان هو الإنسان في كل ثقافة من ثقافات البشر، وأن القوانين لا يمكن تفصيلها لإنسانية دون أخرى، وهذه حقيقة علمية تحكم البشر. فالتغير لم يكن صنيعة الحركات الإسلامية السياسية أو حتى الأحزاب التقليدية بقدر ما كان الأمر يرتبط بثورة ديموغرافية تجسدت ببطالة المتعلمين وتهميش القوى الشابة وتوافر وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت انتقال المعلومة وتحريك الشباب نحو مفاهيم وتوجهات جديدة. وفي تونس التي أشعلت شرارة الحراك العربي نجدها اليوم تحاول التغلب على العثرات وتخطو نحو الصيغة الجماعية التوافقية. وقد تكون حركة «النهضة» الإسلامية أدركت حقيقة الفشل «الإخواني» في مصر وتعلمت الدرس. ولا نعتقد أن تهذيب السلوك السياسي للحركة يثير مخاوف الغير فالحركة هي مكون من مكونات المشهد التونسي. إلا أن الخلاف تجسد بالوهم الكبير الذي عاشته حركة التنظيم الدولي في مصر التي اعتقدت أنها تملك كل أوراق اللعبة، وأنها تملك الشارع، ومن ثم دخلت في حركة إقصاء كبيرة للحركات الاجتماعية الأخرى وانتهت إلى الهاوية. إن الرفض العربي لحركة «الإخوان المسلمين» جاء نتيجة محقة بسبب سياسة التنظيم الدولي المتعطش للحكم والسلطة وليس لمشروع حضاري إنساني ينقل المجتمع إلى حالة استقرار وتنمية مجتمعية. ولا نعرف ما إذا كان النموذج التونسي يمكن أن يفيد الحركات الإسلامية السياسية التي ترى لنفسها الحق كله بينما هي مجرد اجتهادات بشرية لا تملك الحق ولا القوة لعزل الآخر. ولعل الفهم العميق للحراك العربي يسهل عملية الانتقال السلمي ويحد من خطر التطرف الذي من الواضح أنه يتجه نحو التصاعد بين بعض الشباب. فالتطرف ظاهرة اجتماعية يتفاقم وجودها في ظل تخبط وتجاهل واقع اجتماعي منهار، ودراسة الأسباب الاجتماعية للظاهرة تشكل أهم المخارج من الأزمة الطاحنة. والخطأ الفادح الذي شكل الوهم الكبير تجسد في فهم الغربيين للتطرف باعتباره ظاهرة إسلامية ونصوصاً دينية بينما هم يدركون أن الدين يؤسس قيماً إنسانية هادفة تعمل على تهذيب السلوك البشري.