أتينا في مقال الأربعاء الماضي على آراء القدماء والمعاصرين في مسألة أو عقدة الإمامة، على أنها استمرت خطيرة. عندما أُستغلت من قبل الحاكمين والثائرين على حد سواء. فالشعار «يا منصور أمت» ظل يرفعه كل ثائر، ولا تستغربون أن جماعة عراقية باستعراضاتها بعد التاسع من أبريل 2003 عثرت عليه ورفعته. مع أنه شعار قديم، فقيل كان «يا منصور...» شعاراً في الغزوات الأولى، وفي معركة الجمل بالبصرة. نادى به مسلم بن عقيل (قتل 60هـ)، والمختار الثقفي (قتل 67هـ)، وزيد بن علي (قتل 122هـ)، ونادى به العباسيون في المعركة الفاصلة (132هـ) مع الأمويين. يلخص هذا الشعار ديمومة الصراع حول الإمامة، ولو أردنا حصر عدد الثورات وقتلاها، من الثائرين والحاكمين، لتعذر ذلك، فإلى متى يبقى النزاع قائماً، ولا نقول الاختلاف فهذا ليس لأحد التفكير في إلغائه، وإذا أقر الجميع أن الاختلاف حق لا يلزم التفكير بالتكفير، لذا لابد من حل يوقف شرعية النزاع، وذلك بفصل السياسة المباشرة عن الدين، وهذا الحل وجد من قبل القدماء باتجاه يحفظ للمذهب حضوره، كمذهب فقهي يمكن أن يتعامل مع الآخر خارج السياسة، كي يقف ذلك الحراك الثوري ويجف الدم. وإذا بقي النزاع على أمر مضى تجرد له السيوف، فكيف سيعيش المسلمون، وعلى وجه الخصوص في البلدان المختلطة؟ هذا مع علمنا أن البلدان بمنطقتنا كافة مختلطة، من شيعة وسنة، إذن لابد من الاعتراف المتبادل بهذا الاختلاط. نعلم أن الإمامة كأصل من أصول المذهب لا يمكن حذفه، كذلك لا يمكن حذف فكرة التوارث في الإمامة بين الأئمة الاثني عشر، وكذلك فكرة الانتظار والظهور. فالطلب بحذف هذه العقائد يعد ضرباً من الخيال في عقول معتنقيها. لكن المطلوب هو عدم جعل الإمامة كمحفز لتأسيس أحزاب سياسية وميليشيات، وبالتالي تحويلها من عقيدة دينية إلى سياسية، مثلما استغلها ملوك وسلاطين، والآن الإسلام السياسي، فهي تعادل في الإسلام السياسي الشيعي الحاكمية في الإسلام السياسي السني. إن نزع فتيل النزاعات الطائفية يتم بادراك أن الغيبة الكبرى للمهدي المنتظر (329هـ)، أمر رباني لا بشري وكذلك ظهوره. جاء في الأمر أن المهدي أبلغ آخر السفراء وهو علي السمري (ت 329هـ): «فجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره» (الطوسي، كتاب الغيبة). وبهذا التزم كبار مراجع الدين. صحيح أن أي سلطة قبل الظهور تعتبر، حسب أصل الإمامة، مغتصبة للحق الإلهي، لكن ذلك من حيث النظرية لا الواقع، والأئمة أنفسهم تعاملوا مع تلك السلطة، حتى أن ثامنهم الرضا (ت 203هـ) قبل بولاية العهد للخليفة المأمون (ت 218هـ)، وأن مراجع كبار قبلوا الوظيفة في هذه الدولة كالشريفين الرضي والمرتضى ووالدهما. ينقل الشيخ المظفر (ت 1963) عن الإمام السابع الكاظم (ت 183هـ) قوله في الموقف من السلطة غير الإلهية: «لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه، فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم» (عقائد الإمامية). كم تأتي هذه الوصية مطابقة لموقف علماء السنة من الحاكم! لقد دخل ذلك ضمن التراث الشيعي على أنها وصية إمام، وفيها نوع من الحل، أي أن أمر الله في الإمامة ليس من حق البشر أن يثوروا من أجله. لا نتحدث هنا عن الاحتجاج على المظالم، لكن أن لا يؤخذ هذا بدافع نيابة الإمام والعمل السياسي على أنه حق إلهي، بل هو حق البشر في طلب حقوقهم. فإذا كان الأمر لله تعالى، حسب رسالة المنتظر نفسه، فما معنى الثورات باسمه، أو قيام جماعات تدعي أنها تهيئ الأمر له. أليس هذا تحايل على الفكرة نفسها، تلك التي ظل يلتزم بها أكابر المذهب، وبها سيطوق التباغض الطائفي. إن فكرة الانتظار محبطة للإسلام السياسي لذا قفز فوقها إلى ولاية الفقيه. لسنا بصدد الجدل في الفكرة نفسها إنما هؤلاء العلماء التزموا عقيدة المذهب بوجود اثني عشر إماماً، لكن لا يجب أن يبقى النزاع مفتوحاً، فاتركوا للناس حق مواجهة الظلم بأحزاب لا تستغل الدين، إنما أمر الإمامة كأصل ديني من حق الله وحده. على الجانب الآخر، الجانب السني، وهو يؤمن بالمهدي لكن غير المحدد، أن لا يبقى متعصبوه يلحون بالخلاف إلى حد النزاع، فليعتبروا الاعتراف بالمذهب، مثلما فعل شيخ الأزهر محمود شلتوت (ت 1963)، ومؤخراً الشيخ علي جمعة، وكلاهما من سادات الأزهر، هو ضرورة لإخماد التطرف المذهبي، وهذا أمر ممكن خارج السياسة. فلا يمكن التخلي عن هذه العقيدة، وهي لقرون تدرس ويعتمد عليها الوجود الإمامي. عليهم التضامن مع العلماء الذين يرون الإمامة من حق الله، مثلما خُط بقلم أحد أكبر مراجع المذهب شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت 460هـ). كم دولة قامت تحت شعار «يا منصور أمت» وظلمت وفسدت وانتهت، بينما الدولة التي يقومها الله لا تظلم ولا تنهار، إنها الجنَّة «ترعى الشاة والذئب في مكان واحد... ويذهب الشر ويبقى الخير» (صدر الدين الصدر، المهدي). تلك دولة المهدي، فأي بشر يمكنه إقامتها، وهي حسب تراث الإمامية مِن حق الله، متى ما أذن بها، لا تكون ذريعة لنيابة أو ولاية فقيه. وحسب ما نقر عن تلك الدولة أنها ليست صناعة بشرية، أما الذين قالوا نؤسس أحزاب لـ«تهيئة المناخ والظروف السياسية لظهور الإمام المهدي من خلال إيجاد مناصرين للإمام، وإيجاد مؤسسات، وأطر ينجز من خلالها الإمام مهمته»! فهذا تحايل على العقل والدين والمذهب! ولأبي العلاء (ت 449 هـ): «كذب الظن لا إمام سوى العقل/ ومشيراً في صبحه والمساء/إنما هذه المذاهب أسبا/ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء» (لزوم ما لا يلزم)، أقول هل تجارب أصحاب دعوة التمهيد لدولة المهدي البائسة التي أمامنا فيها ما سيؤهل إلى المدنية الفاضلة أو جمهورية افلاطون، دولة خير خالص بلا ذرة شرّ؟ من قال نعم: كذب وكذب. وللحديث صلة.