هل يحدث أحياناً أن لا يؤدي التحديث إلى الحداثة؟ سؤال يحاول الإجابة عليه المفكر وعالم الاجتماع الليبي الدكتور مصطفى عمر التير، من خلال النظر في أحوال بلده تحت حكم القذافي وفي المرحلة التي أعقبته، وذلك في كتابه «أسئلة الحداثة والانتقال الديمقراطي في ليبيا... المهمة العصية». يحتوي الكتاب بين دفتيه ثماني دراسات تتناول جوانب تشمل الفقر، والتطرف الديني، والتغيير الاجتماعي، والتشكيلات الاجتماعية، والمجتمع المدني، ثم تداعيات «الربيع العربي» فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي. لقد عاش الليبيون لمدة أربعة عقود تحت نظام حكم ديكتاتوري، كثر فيه الظلم وانتشر الخوف، ثم انساقوا فجأة في موجة «الربيع العربي» وتبنوا شعار إقامة حكم ديمقراطي رأوه قريب المنال، بل الطريق الذي لا محيد للبلاد عنه. لكن المؤلف يرى أنه في غياب الديمقراطية عن نسق القيم الثقافية الليبية، قد لا يتمكن الليبيون من تحقيق هذا الهدف بالسهولة التي استطاعوا بها الخلاص من القذافي، ومن ثم فسيبقى هدف التحول الديمقراطي في خانة التمنيات أو يتحول إلى مهمة عسيرة الإنجاز. وفي معرض تطرقه للتحولات في أحوال المجتمع الليبي، يقدم التير لمحة تاريخية عن حالة الفقر المدقع التي كان يعيشها الليبيون بسب ندرة الموارد الطبيعية وما تعرضت له بلادهم من كوارث وأزمات، لاسيما خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث تعرض الليبيون لسيطرة الأتراك الذين أهملوا الإنشاء والتعمير ولم يهتموا بتحصيل الضرائب. ثم جاء الغزو العسكري الإيطالي الذي فاقم أحوال السكان وزادها تدهوراً. أما في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، فيذكر الكاتب أن بدايات التغير الاجتماعي كانت محدودة، إذ ظلت محصورة في عدد محدود من المراكز الحضرية، وفي فئة قليلة من السكان تقتصر تقريباً على من التحقوا بوظائف حكومية. ومع أنه تم توظيف أموال النفط لتحديث البنية المادية للمجتمع الليبي وللعناية بالصحة والتعليم وتوفير مياه الشرب... فإن ذلك لم يؤد إلى التحديث على المستوى الشخصي للفرد الليبي، لذا لم تؤد عملية التحديث، كما يقول المؤلف، إلى خواتيمها المطلوبة، أي الحداثة بمعناها الحقيقي. ويعزو التير أسباب مراوحة الإنسان الليبي، ومنذ خمسين سنة، بين خصائص التحديث والخصائص الثقافية للمجتمع التقليدي، إلى ستة عوامل أساسية: البدونة، القبلية، الشخصنة، خطاب اللون الواحد، أفكار الكهف، والاستسهال. وإلى ذلك يعتقد المؤلف أن المجتمع الليبي، رغم إنجازاته في مجال التحديث، ظل خاضعاً لسيطرة الانتماءات القبلية، والتي حالت دون بناء طبقات اجتماعية. صحيح أن تدفق النفط أوجد فروقات كبيرة بين الأفراد بسبب تراكم الثروة لدى البعض، والتحكم في مصادرها لدى البعض الآخر، لكن الشعور بالانتماء الطبقي ظل ضعيفاً وخافتاً. وفيما يتعلق بوضع المرأة الليبية في سياق العملية التحديثية، يلاحظ التير أن الدولة الليبية عملت مبكراً على فرض المساواة يبن الإناث والذكور في مجالات كان يرفضها المجتمع. ثم يتطرق إلى القضية الأكثر أهمية في عملية التحديث عموماً، ألا وهي قضية الانتقال الديمقراطي، ويذكر أن الحديث في ليبيا حول بناء مجتمع مدني قوي لم يكن مسموحاً به خلال عهد القذافي، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور تيارين، أحدهما يؤكد أهمية وجود مجتمع مدني وضرورة تشجيع نموه، وآخر يتبنى ما جاء في «الكتاب الأخضر» زاعماً أن الدعوة لإنشاء مجتمع مدني هي دعوة أجنبية معادية لليبيا. وأخيراً يتطرق المؤلف لعوائق التحول الديمقراطي في ليبيا، وعلى رأسها الافتقار للشرط الثقافي متمثلا في قيم الديمقراطية ومبادئها، وهو غياب كرسه ميراث النظام السابق على نحو لا يمكن الانعتاق منه سريعاً. فقد ساد المجتمعَ نسقٌ من القيم كانت تجسده بصورة واضحة قيادات وأعضاء اللجان الثورية وكبار رجال الحكومة، حيث تكونت طبقة من الأثرياء حققت ثراءها عبر نهب الثروة وليس إنتاجها، إلى جانب آخرين من صغار الموظفين الذين سعوا للحصول على نصيب من الثروة، فانتشرت الرشوة وارتفعت معدلات الفساد. وما العنف الذي يطبع سلوك شباب الانتفاضة إلا تعبيراً عن تلك القيم ذاتها. بمعنى أن الإطاحة بنظام القذافي قد لا تعدو أن تكون عملية لتغيير الوجوه وليس تغييراً جذرياً في نسق القيم. ومن هنا يعتبر المؤلف أن نظاماً سياسياً ديمقراطياً في مجتمع تخلو ثقافته من قيم الديمقراطية ومبادئها، أمر يتطلب وقتاً طويلا، ومن ثم فعلى الليبيين أن يتحلوا بالصبر وينتظروا طويلا قبل تحقيق «المهمة الصعبة» التي رفعوا أهدافها خلال انتفاضتهم ضد نظام القذافي. محمد المنى الكتاب: أسئلة الحداثة والانتقال الديمقراطي في ليبيا... المهمة الصعبة المؤلف: د. مصطفى عمر التير الناشر: منتدى المعارف تاريخ النشر: 2013