قطعت السياسة القطرية آخر الحبال الممدودة من الرأي العام الشعبي الإماراتي الذي عاش غضباً مبرراً من تصرفات الجارة التي اعتادت على غفران تصرفاتها المعادية للدولة بين الفينة والأخرى باسم الحرص على العلاقات الأزلية بين الشعوب تارة، وباسم علاقات الجوار والمصير المشترك تارة أخرى، وتارة ثالثة باسم مدّ حبل الصبر ومنح فرصة جديدة، وما إلى ذلك من أعذار أثبتت خلال الفترة السابقة مدى حرص الدولة على علاقاتها معها. ما تفعله الجارة قطر بتدخلها في شئون الدول الأخرى، والقبول على نفسها بأن تكون منصة إطلاق لمكائد التنظيم الإخواني المتأسلم على جاراتها، خاصة الإمارات، أمر لا يمكن القبول به أو السكوت عليه، وبعيداً عن دبلوماسية الدولة التي تفرض عليها قيوداً كثيرة تندرج في قائمة المصلحة العليا للوطن، فإن الرأي الشعبي لازال يؤمن بأن علاقته الشعبية بقطر، تظل أبدية لا تتأثّر بصبينة ساستها، ولا فتن مستورديها من مشايخ «الإخوان» الذين يحملون أحقاداً دفينة لأول دولة واجهتهم بوضوح وحسم، وأول شعب كشفهم ولفظهم بعيداً عنه. الذهنية السياسية في قطر حالياً لا تؤمن بوحدة الأوطان تماماً كما التنظيم المتأسلم، لذلك تحاول التحجج بمختلف الحجج والمسميات، بل وحتى بالإعلام، فظهور شيخ الفتنة المدعو القرضاوي في منابر المساجد القطرية يوم الجمعة الماضي، مثّل رسالة واضحة التقطتها الإمارات، ولم يخفها القرضاوي نفسه، فرغم أن الخارجية القطرية وعدت مثيلتها الإماراتية بعدم تكرار الاستهداف من منابرها، فإنها عادت ونكصت سريعاً في وعدها بظهور شيخ الفتنة على ذات المنبر، يصاحبه ذات النقل التلفزيوني الرسمي، ودون مواربة، يرغي ويزبد ويتحدّى ويسب، محولا منبر المسجد إلى ساحة حرب على دولة الإمارات وشعبها، وهي رسالة أخرى من التنظيم الإخواني لدولة الإمارات يقول فحواها «لستم بأعزّ منّا عند ساسة قطر لو تم التخيير بيننا»، فتسريب الشائعات الذي أتقنه التنظيم الإخواني واستخدمه في كل حروبه، كانت بصماته واضحة في السلوك القطري الذي أخفى شيخ الفتنة ثلاث أسابيع لامتصاص غضب الشارع الإماراتي جرّاء تهجمه على الدولة في بدايات هذا الشهر، وبدأ يبث شائعات قيام قطر بالطلب إلى قادة الفتنة المستوردين من الخارج، المغادرة إلى أماكن آمنة، أمّنتها لهم دولة قطر بنفسها، ومن ثم إخراجه من جديد بنبرة التحدّي الواضحة التي أحرجت وفضحت السياسة القطرية ونواياها تجاه شقيقاتها من دول مجلس التعاون الخليجي. القرضاوي الذي خرج هذه المرة بلهجة غير مسبوقة تجاه الدولة، بدأ كعادته مضطرباً يحاول التبرير الممنهج عن طريق الاستعطاف، وكأنه يحاول تأكيد شيء هو غير مقتنع به، فبدأ بمحاولة إقناع السامعين بأنه كبير في السن ويجب أن يستمعوا لما يقول، لكنه خرج فجأة عن وقار السن وعن كل ما ادّعاه من عقلانية في هجوم مفاجئ على الشعب الإماراتي الذي غضب من إساءاته الماضية، واصفاً كتاباته المنطقية التي أوجعته بالفعل بأن من كتبها هم زمرة من «الكذابين والمنافقين والأفاكين» حسب قوله، وهي أول سقطات شيخ الفتنة الطاعن في السن، والذي جعل منبر المسجد مكاناً للسب والشتم والهجوم على شعب بكامله. لم تفارق القرضاوي نرجسيته المعهودة طوال الخطبة، فرغم أن تبريره لغياب الجمعات الثلاث الماضية جاء مضطرباً، فقد قال عن الجمعة الأولى «إنني اعتذرت»، دون أن يبرر سبباً للاعتذار، وأن الجمعتين اللتين تلتا جمعة الكارثة، قال إنه مرض فيهما بإنفلونزا حادة، وكان واضحاً من نبرته في الاعتذار أن الغياب كان قسرياً وأن الشيخ الجليل يكذب، وكما هو في موقعه على الإنترنت الذي طغت فيه لغة الأنا، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وأوردها في سيرته من قبيل فعلت كذا وكذا، وترأست كذا وكذا، وقمت بتأليف كذا وكذا، ولكي أصبح أكبر من الأزهر والقيروان، إشباعاً لنرجسيتي أنشأت بمساعدة قطر «هيئة علماء المسلمين»، ونصّبت نفسي رئيساً عليها، لأكون رئيساً عاماً لكل علماء المسلمين من سنة وشيعة، وأصبح للمسلمين كبابا المسيحيين، وأبني لي فاتيكاناً مثالياً في دوحة «الإخوان» المباركة، هذا هو حاله ونرجسيته، ولو تفرغنا لتفريغ كل خطبة من خطبه لوجدنا كلمة «أنا» تتجاوز ربع كلمات خطبه، ولم يشذ القرضاوي في هذه الخطبة عن الأنا فقد قال بالحرف: «أنا أقول الحق دائماً بلغة خفيفة جداً جداً جداً»، وكأنه تناسى يوم أمر الجهاديين وضباط الجيش في ليبيا بقتل ولي الأمر القذافي في ذلك الوقت، قبل أن يقوم بتحريم الخروج على طاعة ولي الأمر حينما تولى مرسي رئاسة مصر، وانقضى عهد فتوى القذافي، ونسي أيضاً ما قاله في مدح الرئيس السوري بشار الأسد، وحديثه حول ممانعته وحفاوة استقباله، وكرم ضيافته حينما زاره في عام 2004، ثم انقلب عليه بعد أقل من عقد، ورغم أنه تحدث عن اللاتحريف في كلامه، وعن انتهاجه التبسيط واللين، إلا أن الخطبة ذاتها فضحت عدم صدق ادعائه حينما وصف دول الخليج بالظالمين الذين يمشون فساداً في الأرض ويسفكون الدماء، أو يدفعون المليارات لسفك الدماء، وكأنما الدولة التي يخطب من منبرها لم تقم بتمويل كافة ما أطلقت عليه «ثورات الربيع العربي»! وتفضحه نرجسيته التي تزداد يوماً بعد آخر كلما طعن في السن حينما ادّعى بأن سطرين من خطبته أخافا الرأي العام والحكومة الإماراتيين دون أن يسميها، فكيف إذن أفردت لهما خطبة؟ لقد توهم القرضاوي أنه بذلك الهجوم المسبق سيخفي حقيقة هذه الخطبة الثانية، ويوقف الأقلام الوطنية عن الكتابة، غير أن الذهنية التحليلية في الإمارات كانت أكبر من أن تفوتها قراءة كل ما بين سطور التهديد المسبق، ففي الخطبة الأولى، اتهم القرضاوي الإمارات بمحاربة الإسلام، ما يعني أن الخطبة كانت أمراً صريحا للمخدوعين بكلمة «مجاهدين» لاستهداف الدولة، وفي هذه الخطبة أعطى الأمر لصحفيي التنظيم وجيشه الإلكتروني وأوعيته الكتابية المعهودة، بالهجوم على الإمارات، والأنا أيضاً لاتزال حاضرة حتى في هذا الأمر من قبيل :«أنا سأظل أقول الحق، أنا لا أعادي دولة، أنا لا أعادي فرداً، أنا كل الذي يهمني الإسلام والمسلمون، الناس يريدون تفريق الأمة وأنا أريد تجميعها، يريدون أن يهدموا الأمة، وأنا أريد أن أبنيها، يريدون أن يميتوا الأمة وأنا أريد أن أحييها»، هذه إحصاءاتُ دقيقةٍ واحدة فقط من عمر الخطبة، فإلى متى تلازم الأنا هذا الشيخ الثمانيني؟!