عندما هبت رياح الثورات الديمقراطية على دول أوروبا الشرقية خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لم يكن أحد يتصور أن تتعرض الثورة البرتقالية التي تأخر قدومها إلى أوكرانيا لهذا الكم الهائل من المشاكل والصعوبات التي تكاد تعصف بالبلاد وتقذف بها إلى منزلق خطير، وربما يكون السبب أن أوكرانيا إن كانت قد داعبت لفترة آليات الحكم الديمقراطي واستفادت من التحرر، إلا أنها مع ذلك لم تفد كثيراً من جوهر سيادة القانون التي تصاحب عادة الحكم الديمقراطي، ولا شهدت الحريات والمساواة التي تعرفها الدول الديمقراطية. وقد يكون هذا الإخفاق راجعاً إلى طبيعة أوكرانيا المنقسمة على نفسها، والشرخ المتعمق بين الشرق الناطق بالروسية والأقرب إلى موسكو وبين الغرب المشرئب إلى أوروبا وقيمها الديمقراطية. وليس غريباً في ظل الواقع الأوكراني المعقد أن تشهد البلاد سلسلة من الأزمات المتتابعة على مدى السنوات الأخيرة التي استفحل حلها وأغرقت المشهد في موجة خطيرة من العنف والمواجهات الدامية التي كان آخرها محاولة السلطة فض الاعتصام في العاصمة كييف وما أوقعه ذلك من ضحايا وصل عددهم إلى 77 قتيلاً حسب آخر التقديرات، وقد امتزجت دماء رجال الشرطة مع المعارضين. وليس غريباً أيضاً أن نعرف أن واشنطن حاضرة بقوة في الأزمة الأوكرانية من خلال دعمها الواضح للمعارضة ودفعها إلى التمسك بمواقفها. وهذا الانخراط الغربي، والأميركي تحديداً، ليس خافياً على أحد، بما في ذلك الصحافة الغربية نفسها، حيث كتبت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» افتتاحية في الأسبوع الماضي تنصح فيها أوباما بتوخي الحذر في التعاطي مع الموضوع الأوكراني وتفادي تحويل البلد إلى ساحة للمواجهة تعيدنا إلى أجواء الحرب الباردة، وهو أمر حرص أوباما نفسه على توضيحه في المكسيك خلال قمة زعماء أميركا الشمالية بتأكيد أن المواجهات الدامية التي تشهدها حالياً أوكرانيا، وأيضاً الحرب الأهلية الدائرة في سوريا والصراع بين السلطة والشعب في البلدين ليست جزءاً من حرب باردة جديدة ولا رقعة للصراع الأيديولوجي بين الولايات المتحدة وروسيا. ولكن على رغم هذه التطمينات أبدى كُتاب أعمدة الرأي والمقالات في الصحف الأميركية قلقهم من أن المواجهة بين موسكو وواشنطن حقيقية، وأن حدتها باتت واضحة ومحسوسة على أكثر من صعيد. ولعل مما يثبت ذلك استقبال روسيا للمتعاقد السابق مع وكالة الأمن الوطني، إدوارد سوندن، ومنحه حق اللجوء السياسي بعد تسريبه لوثائق حساسة تشير إلى تجسس الاستخبارات الأميركية على دول حليفة، بل والتنصت أيضاً على مكالمات قادة دول مثل أنجيلا ميركل. وهذا الأمر جعل أميركا في وضع حرج وأثار دعوات لحماية خصوصية الدول والمجتمعات. وفي تحليل للوثائق المسربة كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أنه بقراءة متأنية لتلك الوثائق يتضح المدى الذي ذهبت إليه وكالة الأمن الوطني في التجسس على مواطني الدول الأجنبية. بل قالت إن الوكالة كانت مستعدة ليس فقط للتلصص على المكالمات والدخول إلى الحسابات الشخصية لمستخدمي المواقع الإلكترونية، بل أيضاً لشن هجمات إلكترونية على أجهزة الكمبيوتر. وركز الإعلام الأميركي أيضاً في سياق تحذيره من المواجهة الباردة مع موسكو على الأحداث الجارية في أوكرانيا، حيث خصص برنامج «الديمقراطية الآن» الذي يبثه «راديو أميركا» للحديث عن الصدام الدموي في كييف بين أنصار المعارضة الذين تدعمهم واشنطن، وبين السلطات المؤيدة لفيكتور يانوكوفيتش الذي تقف موسكو في صفه. ويشير البرنامج إلى أنه على رغم تعهد أوباما بالانخراط «مع جميع أطراف الصراع في أوكرانيا» وعدم تفضيل جانب على حساب آخر، فقد أظهر تسجيل مسرب عن مسؤولين أميركيين أن الإدارة الأميركية تتعاون حصراً مع المعارضة وتقدم لها الدعم لمواصلة احتجاجاتها والضغط على الحكومة المتحالفة مع روسيا. ولا ننسى أن المواجهة الحالية على الساحة الأوكرانية بين أميركا وروسيا ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة بدأت مع اندفاع التحالف الغربي بقيادة حلف شمال الأطلسي لضم دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في الفلك السوفييتي والتمدد بالقرب من الحدود الروسية، وذلك منذ التسعينيات، الأمر الذي أحيا مخاوف قديمة لدى موسكو بتطويقها من قبل الغرب، ذلك التطويق الذي يتخذ بعداً داخلياً من خلال منظمات المجتمع المدني التي يمولها الغرب. ثم هناك البعد الخارجي والعسكري الذي يجسده نظام الصواريخ الموزع على بلدان مجاورة لروسيا. ومع أن الهدف المعلن من نظام الصواريخ هو التصدي للخطر الإيراني كما يقول الغرب، تبقى روسيا على قناعة تامة بأنها هي المستهدف الأول لإتمام الطوق حولها ومحاصرتها واستكمال السياسية الغربية القديمة المتبعة بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة الروسية التي ظلت مستمرة أثناء الحرب الباردة. لكن الأزمة الأوكرانية الحالية ورغم التدخلات الخارجية تبقى وليدة الصراع الداخلي بالأساس والأخطاء التي ارتكبها أطراف النزاع، بين القوات الحكومية التي أفرطت في استخدام القوة ضد المتظاهرين، وبين تصلب مواقف السلطة، وتضاف إلى ذلك المهلة المغلفة بلغة تحذيرية واضحة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي بتخييره للرئيس بين «أوروبا وروسيا» والتي تحيل مجدداً إلى لغة الحرب الباردة وسياسة الاحتواء القديمة. وهذا الخيار غير الواقعي تنبه إليه الرئيس بوتين الذي قال في وقت سابق إن الاختيار بين الغرب وروسيا غير مبرر، وإنه يمكن التعاون والتنسيق بين الجانبين، إلا أن دعوة بوتين ظلت مجرد صدى وفضل الغرب التمترس وراء صورته النمطية القديمة عن روسيا باعتبارها وريثة النظام الشيوعي، والحال أن الصراع الأيديولوجي لم يعد له وجود اليوم، لأن ما يهم الناس هي تلك المبادئ الاقتصادية التي توفر لهم حياة كريمة.