قد يكون من غير المنطقي إنكار وجود أزمة صامتة أو مكتومة في العلاقات بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقد يكون من المنطقي توصيف هذه الأزمة بأنها الأكثر عمقاً في جدار العلاقات الخليجية منذ تأسيس المجلس في بداية ثمانينيات القرن الماضي. سبب هذه الأزمة ليس خلافاً حدودياً كما هو معتاد في موروث الأزمات العربية والخليجية، ولكنه -للأسف- تباين في وجهات النظر ونمط التعامل مع جماعة إرهابية هي جماعة «الإخوان المسلمين»، إذ تصرّ إحدى دول مجلس التعاون على مسلكها بشأن استضافة بعض قيادات هذه الجماعة ومنحها غطاءً سياسياً وإعلامياً لنشر ضلالاتها وفكرها المتطرف سواء في الدولة الأم المقر لهذا التنظيم، وهي مصر، أو لبث الفرقة والوقيعة بين دول مجلس التعاون وبعضها البعض. الواضح من الشواهد كافة، أن جماعة «الإخوان المسلمين» تحرص على استغلال أي فرصة لإثارة الأزمات وتعكير أجواء العلاقات بين دول مجلس التعاون، ولعل محاولة الجماعة الإساءة إلى العلاقات الراسخة بين دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت مؤخراً، هي أحدث برهان على ذلك. الشواهد تؤكد أيضاً أن الجماعة تخوض معركتها الأخيرة في منطقة الخليج العربي بعد انهيار نفوذها وسطوتها في مهدها ومقرِّها بعد انتفاضة الشعب المصري، بطوائفه وتياراته كافة، ضدها في الثلاثين من يونيو الماضي. لاشك أن قيام بعض الطلاب الكويتيين المنتمين إلى تنظيم «الإخوان المسلمين» بإقامة اتحاد طلابي خارج إطار القانون ودون ترخيص والقيام بجمع تبرعات في جامعة الشارقة، إنما يُعدّ تجاوزاً قانونياً متعمَّداً استهدفت الجماعة من ورائه إثارة قضية والنفخ فيها إعلامياً لتشويه سمعة دولة الإمارات العربية المتحدة ومحاولة الإساءة إلى العلاقات بين الشعبين الشقيقين، رغم نجاح السلطات في دولة الإمارات في تفويت الفرصة على مخطط «الإخوان» عبر الاكتفاء بفصل الطلاب الثمانية إدارياً من الجامعة من دون محاسبتهم قانونياً، وتفادي فخ وقوع العلاقات التاريخية بين البلدين ضحية لمؤامرة إخوانية. وبعد أن نجح الشعبان الإماراتي والكويتي في تجاوز هذا الفخ التآمري، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً على خلفية تأثر فضاء العلاقات بين دول مجلس التعاون بـ«فحيح» الإخوان ليل نهار، وهو: لماذا تتمسك جماعة «الإخوان المسلمين» بموطئ قدم لها في دول مجلس التعاون؟ وكيف يمكن فهم الإصرار الموازي من جانب دولة قطر على الإمساك بورقة «محروقة» ثبت أنها تفرز أشد الضرر على مصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها مع بقية دول مجلس التعاون؟ إن تفكيك الشق الأول من هذا التساؤل والسعي إلى تفسيره يكمن في أولوية فهم السلوك السياسي للجماعة، إذ ترى الجماعة في منطقة الخليج العربي بديلا لفشلها في مصر، ومن ثم يزداد تمسك الجماعة بهذا الوجود أكثر من ذي قبل، لاسيما وهي تدرك حجم التحول التدريجي الحاصل في مواقف بعض الدول الغربية التي كانت تعد حاضناً تقليدياً للعمل التنظيمي الإخواني. كما أن المسألة برمتها بالنسبة لها لا علاقة لها بالجغرافيا، بل بتوافر أسس تنفيذ «خطة التمكين» للجماعة، لاسيما أن وثيقة ما يُعرف بـ«التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، التي صدرت عام 1982 لا تعترف بفكرة الولاء الوطني، وإنما تؤسس بوضوح للولاء للجماعة أو التنظيم الدولي، حيث تنص اللائحة الداخلية للتنظيم على أن «الإخوان في كل مكان جماعة واحدة، يجمعها النظام الأساسي، وأهدافها تحرير الوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان غير إسلامي وقيام الدولة الإسلامية». كما تنص اللائحة على أن كل تنظيم قُطري هو جزء من التنظيم الدولي، وأن مراقب هذا التنظيم يعطي البيعة للمرشد العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وفي ذلك يقول القرضاوي، وهو بطبيعة الحال أحد أبرز رموز «الإخوان»، إن «الوطنية من صناعة الدول الاستعمارية بغرض تفكيك وحدة المسلمين»، ويرى أنه «ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تُتخذ فيه الأوطان والقوميات أوثاناً تعبد من دون الله، تُجنَّد لتقديسها الأقلام والألسنة وجميع أجهزة التأثير والتوجيه والإعلام، وتُحشد حولها المشاعر والعواطف، ويُوجَّه لها الحب والولاء، إلى درجة العبادة بالفعل، وإن لم يعبروا عنها باللفظ.. إنها وثنية من نوع جديد ظهرت في بلدان شتى، ثم انتقل وباؤها وسرت عدواها إلى بلاد الإسلام». وقد لا ينسى كثيرون أن مفهوم الوطن، ولو كمصطلح لفظي مجرد، غائب تماماً عن أدبيات عناصر «الإخوان المسلمين» وخطابهم السياسي والإعلامي، بل إن أحد أبرز كوادرهم، وهو رئيس مصر المعزول محمد مرسي، لم يكن يحلو له سوى التعبير بـ«عشيرتي» و«أهلي» وغير ذلك من أساليب تعميم لا تخص الوطن ولا تشير إلى قناعة ما بفكرة المواطنة، التي استقرت عليها أدبيات الدولة بمفهومها الحديث المتعارف عليه! هذه الأفكار تكفي لإدراك النسق الفكري الإخواني في التعاطي مع دول مجلس التعاون أو غيرها من الدول، فالذي يرى في الأوطان نوعاً من «الوثنية» تُعبد من دون الله لن يفكر في مصالح شعوب أو مستقبل أوطان، فالجماعة تعلو ولا يُعلى عليها! كيف إذن يمكن لأي من دول مجلس التعاون التعايش مع جماعة «الإخوان المسلمين» التي احتسبت بن لادن، زعيم «القاعدة»، شهيداً عقب اغتياله على أيدي قوات خاصة أميركية في باكستان في مايو 2011؟ هنا يصعب قبول أي تفسير منطقي يصدر عن أي دولة تساند جماعة «الإخوان المسلمين»، فالمنطق غائب أو مغيب تماماً في أي طرح من هذا النوع، فلا مصلحة لأي دولة في مساندة جماعة إرهابية تروج لقناعات وفكر يقوض أسس أي دولة ذات سيادة، بما في ذلك الدولة الحاضنة ذاتها، وأياً كانت حسابات «المصلحة» وراء ذلك، فهي تتداعى بسهولة أمام منطق المصلحة الذي يتماهى مع مصالح شعوب دول مجلس التعاون وضرورات الحفاظ على وحدتها ومكتسباتها. هذا العبث الإخواني ومحاولة الوقيعة بين بعض دول مجلس التعاون، كما حدث في حالة الإمارات والكويت، أو في اتخاذ دول أخرى في المجلس منصة لنشر أفكارهم، ينبغي أن يتوقف إعلاءً للحكمة وصوت العقل وحرصاً على المصالح الاستراتيجية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فليس من العقلانية احتضان جماعة إرهابية وعناصر منبوذين من شعبهم ودولتهم، وإلا أصبحت «طالبان» في الجانب الصحيح من التاريخ حين استضافت قيادات تنظيم «القاعدة»، وعاندت في ذلك واستمرت في عنادها حتى دفع الشعب الأفغاني المسالم كله، ولا يزال، ثمناً باهظاً لذلك على المستويات كافة. تُرى هل يستسلم الجميع للفكرة التي يسعى إليها «الإخوان المسلمون» عبر الوقيعة بين دول مجلس التعاون، وهل تضحي بعض دول المجلس بموروث التاريخ وحاضر المصالح ومستقبل الشعوب دفاعاً عن جماعة يائسة بائسة تريد أن تغرق المنطقة بأكملها في ظلام القرن الوسطى؟ الخطأ في الرهانات والاستراتيجيات وارد، ويحدث من أكبر الدول وأصغرها من دون تفرقة، والمثال على ذلك الولايات المتحدة الأميركية، التي اعترفت بارتكاب أخطاء استراتيجية عدة في السنوات الأخيرة وقامت بتصحيحها، لكن تبقى الإشكالية في عدم الإنصات إلى صوت العقل والحكمة ومراجعة الذات والحسابات قبل فوات الأوان، فلن يغفر التاريخ لنا كخليجيين، عدم مقدرتنا على التوحد والتماسك والاصطفاف في مواجهة تحديات اللحظة التاريخية الراهنة.