عندما تسقط الديكتاتوريات وتنهار الأنظمة الأمنية التي كانت تحمي النظام ويسارع الحرس الخاص إلى الفرار وترك مواقعه بعد الثورات والانتفاضات الشعبية، فإن أول رد فعل للجماهير الهائجة يكون عادة التوجه مباشرة إلى القلاع والحصون المنيعة التي تمثل قصور القادة السابقين، تلك القصور المنيفة إما أن تتعرض للنهب والسرقة، أو تُعرض محتوياتها أمام الرأي العام والكاميرات لنقل ما تعكسه من مظاهر الغنى والثراء ومن مقتنيات فريدة وباهظة الثمن. هذا الأمر تكرر أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، فقد شهدنا سيناريو مشابهاً عندما اجتاح الشعب الغاضب قصر ديكتاتور الفلبين السابق، فرديناند ماركوس عام 1986 إثر انتفاضة عارمة اجتاحت الشوارع وأدت لإطاحته، حيث كشفت التطورات اللاحقة ومداهمة الشعب للقصور الرئاسية مظاهر البذخ الفاحش وشاهد الملايين من الشعب خزانة الملابس الخاصة بزوجة الديكتاتور، إميلدا ماركوس، التي كانت تفاخر بامتلاكها أكثر من ألف زوج من الأحذية الموقعة من قبل أشهر بيوت الموضة العالمية. واطلع الناس أيضاً على المقتنيات الفنية الخاصة بالرئيس ومجموعة من المجوهرات الفاخرة. وبعد مغادرته السلطة قدرت الثروة الخاصة بماركوس وزوجته في تلك الفترة بحوالي عشرة مليارات دولار. وتكررت عملية كشف المخبوء من الكنوز التي تحويها القصور الرئاسية ومظاهر الغنى والثراء مع كل من صدام حسين عند دخول القوات الأميركية بغداد عام 2003، فحينها رأى الشعب العراقي حمامات طُليت بالذهب، فيما اكتشف الليبيون إقامات وقصوراً باذخة للقذافي وأبنائه في أكثر من مكان. واليوم يبدو أن الدور جاء لكشف ما يخفيه قصر الرئيس الأوكراني المخلوع، فيكتور يانوكوفيتش، فمع أن تداعيات الأحداث الأخيرة والمتلاحقة التي شهدتها أوكرانيا في الأيام والأسابيع المنصرمة لم تتضح بعد، إلا أن الأمر المؤكد هو ما كشفه سقوطه من نمط حياة خاص يتعارض جوهرياً مع أسلوب الحكم الديمقراطي والشفاف الذي يتوق إليه الأوكرانيون. ففي نهاية الأسبوع الماضي، وبعد فترة من المواجهات العنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين في ساحات وشوارع كييف، والاستخدام المفرط للقوة الذي نجم عنه سقوط عدد كبير من القتلى قبل أن تندحر تلك القوات ويفر الرئيس إلى المناطق الشرقية من البلاد، اقتحم آلاف المواطنين الغاضبين الإقامة الخاصة بالرئيس (شخصية وليست محسوبة ضمن الممتلكات العامة) والتي خلفها وراءه بضواحي العاصمة كييف، ليطلعوا على حجم البذخ والفخامة التي كان يعيشها يانوكوفيتش ومظاهر الأبهة التي تحيط بالمكان، هذا في وقت تعاني فيه البلاد من مشكلات اقتصادية واجتماعية مستعصية. ولدى دخولهم القصر الخاص بالرئيس، جال الناس بين أروقته وفي مقاره المختلفة التي تضم على الأقل ستة منازل فيما يشبه المجمع الرئاسي مترامي الأطراف، كان أكبرها بيت بُني على الطراز السويسري بعدد لا يحصى من الغرف والأنفاق والجسور، بالإضافة إلى ملعب للغولف وسفينة عائمة على الطراز الفيكتوري استخدمت كمطعم، يضاف إلى ذلك حديقة حيوان خاصة ومجموعة فريدة من المقتنيات الفنية النادرة والسيارات الفارهة، ومنصة لنزول طائرة الهيلكوبتر. واللافت أنه رغم البذخ المستفز للأوكرانيين التزم الناس الهدوء وضبطوا أنفسهم واختاروا عدم النهب أو السرقة. ويبدو أن الجموع الغفيرة التي اقتحمت الإقامة الرئاسية الخاصة قررت الحفاظ على محتوياتها وعدم المساس بها كدليل ساطع على فساد يانوكوفيتش وتضخم الأنا لديه. وبالإضافة إلى مظاهر البذخ الواضحة، عثر المقتحمون للقصر الرئاسي على بقايا وثائق محروقة، وأخرى مرمية في إحدى البرك المائية، لتتم استعادة ما أمكن منها والبحث في ثناياها عما يدين يانوكوفيتش ويثبت تورطه في الفساد. لكن ما أن تهدأ الأمور في كييف وتستقر الأوضاع حتى يبرز سؤال حول الطريقة التي يقدم بها الرئيس المخلوع إلى العدالة، لاسيما في ظل التصريحات الروسية التي اعتبرت إطاحة الرئيس غير دستورية، واصفةً الأمر بالانقلاب. وقد سارع الغرب إلى قطع الطريق على أي احتمال بالتدخل العسكري الروسي، وذلك بتوجيه تحذير إلى موسكو من أن أي خطوة غير محسوبة قد تزيد من تعقيد الوضع الأوكراني الهش. ومع أنه من المستبعد جداً أن تُقدم روسيا على التدخل المباشر ما لم تحدث تطورات كبرى ويتدهور الصراع إلى نوع من الحرب الأهلية، إلا أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء التطورات في أوكرانيا، بل من المرجح أن تلجأ إلى توظيف نفوذها الاقتصادي الوازن، للتأكد من أن أي حكومة جديدة في كييف لن تقطع مع روسيا حتى وهي تعزز علاقتها مع الغرب. ولا شك أن روسيا ستخسر كثيراً إذا فقدت أوكرانيا، لاسيما أن المناطق الشرقية للبلاد تضم عدداً كبيراً من السكان الناطقين بالروسية، كما أن موسكو تحافظ على أسطول مهم على ضفاف البحر الأسود بمنطقة «كريميا»، هذه المنطقة التي كانت إلى حدود عام 1956 جزءاً من روسيا، لكن وفي حركة سخية تجاه موطنه الأصلي، قام الزعيم السوفييتي نكيتا خروتشوف، بضمها إلى أوكرانيا، لتظل جزءاً منها بعد استقلال البلاد في عام 1991، لذا تظل «كريميا» قضية مشحونة بالمشاعر القومية ولن يجد بوتين في حال أراد التصعيد أي صعوبة في حشد تأييد الرأي العام الروسي الذي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية. لكن روسيا ستنتظر على الأرجح حدود التوسع الغربي، إذ من غير المقبول لديها التفكير في ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وهو أمر لن يذهب إليه الغرب في جميع الأحوال، ليبقى الانفتاح الغربي على أوكرانيا قائماً من خلال الاتحاد الأوروبي باعتباره أمراً حاصلاً، سواء وافق بوتين على ذلك أم لم يوافق ما دام الشعب الأوكراني حسم خياراته، وقرر التوجه غرباً نحو جيرانه الأوروبيين علَّ ذلك ينتشله من ميراث الفساد والاستبداد الذي أثقل كاهله.