ليست كل المدن سواء، فهناك العتيقة العريقة الضاربة في جذور التاريخ، وهناك الطارئة الجديدة على الدنيا، وهناك التي تتجاور فيها بنايات الفرق بين الواحدة وأختها مئات بل آلاف السنين، وهناك التي لا تجد فرقاً بين قديمها وجديدها سوى بضع سنوات أو عقود على الأكثر. وهناك المدينة التي نبتت على ضفاف قرية أو طوقتها في دأب فزادتها ضخامة وغربة، فقال الناس «الريف قد تمدْيَن»، وهناك أخرى كانت في الأصل مدينة ونبت الريف حولها أو في جوانب منها، كزوائد دودية، فقال الناس «المدينة تريَّفت»، فوجدنا الموظفين في المنتصف، والفلاحين على الأطراف. وهناك مدن عريقة أهملها أصحابها، فتركوا لبعض المعمار الحديث، بقبحه الطافح وتجهمه، فرصة ليزحف ويرمي ظلاله الكئيبة على البنايات الخفيضة الوديعة المسكونة بالتاريخ والفن، فاختلط الحابل بالنابل. وهناك مدن حافظ عليها أصحابها فتركوها على حالها، ولم يمدوا إليها من مظاهر التحديث والحداثة إلا بالقدر الذي لا يأتي على شخصيتها الحقيقية ولا يضيع معالمها الأصيلة ولا يفقدها رمزيتها التاريخية، وحرصوا على أن يجعلوا من البيوت التي سكنها المشاهير أو التي شهدت أحداثاً لا تنسى مزارات سياحية. ويفرق علماء الاجتماع بين المدينة الصغيرة «البلدة» Town وبين المدينة الضخمة Megalopolis والتي هي تشير حالياً إلى ضواحٍ واسعة الأرجاء، تترابط وظيفياً، وكذلك المدينة الكبرى Metropolis وهي تشير إلى المراكز الحضرية الكبرى والضواحي المحيطة بها، وأيضاً المجمع الحضري أو البقعة الحضرية Conurbation وهي تشير إلى التجمع الذي يضم مدينة كبرى، تطوقها ضواحي مترامية الأطراف، لتكون بيئة حضرية وصناعية، تنمو باطراد. وتتدخل الدولة لتربط بين هذه الأحياء عبر شبكة نقل عصرية، بما يوحدها في خاتمة المطاف، لاسيما مع ميلاد الأسواق ومناطق العمل وأماكن التريض والترفيه. وليس كل أحياء المدينة الواحدة سواء، فنحن نتحدث دوماً عن «قلب المدينة» أو المضغة الأساسية التي نما منها كل هذا الجسد الإسمنتي المترهل ونسميه Down Town، وهناك الأحياء الجديدة التي تنمو باستمرار، ويصيب بعضها ما قبله بالقدم، ونفرق بين ما نطلق عليها «أحياء شعبية» يسكنها بسطاء الناس ممن ينتمون إلى الشريحة العليا والمتوسطة في الطبقة الدنيا والشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى، وما نسميها «أحياء راقية» والتي يقطنها علية القوم، والشريحة العليا من الطبقة الوسطى. وهناك أيضاً الأحياء العشوائية، وهي الضيف الجديد الثقيل على المدينة، الذي أتى إليها مع هجرات القرويين الساعين وراء ما يقيم أودهم، أو الهاربين من الفقر والجوع والمرض والإهمال المزمن، فبعض الآتين منهم إلى المدينة لا يعودون، إنما يبقون باحثين عن مأوى، ولا يجدونه إلا في الزوائد الدودية المشرفة على التعفن، التي تطول جوانب المدينة، أو تسلل إلى داخلها في بعض المواضع، كبيوت متداعية، أو علب إسمنتية مبعثرة، أو عشش وأكواخ من الصفيح، يهزها الريح. بل وصل تضخم هذه الحالة إلى درجة أننا نجد علماء الاجتماع قد خصصوا لها مصطلحاً فريداً هو «مدن العشش» Shanty Towns، وهي منتشرة في دول العالم الثالث بكثافة، ولا يخلو منها العالم الأول أيضاً. ومن سمات هذا النوع من المساكن شغل الأرض بطريقة غير قانونية، عبر وضع اليد، والتجمع في البقع الاقتصادية ذات القيمة الاقتصادية المتدنية نسبياً، حيث يقوم من وضعوا أقدامهم فيها، أو أياديهم عليها، ببناء بيوت لهم بلا تراخيص قانونية، ودون التقيد بشروط العمران التي حددتها الدولة، ولذا تعاني هذه المباني من نقص المرافق والخدمات. وقد تمتد لها يد أهل الحكم والإدارة فيما بعد محاولة أن تنظم المبعثر منها، وتوفر الخدمات مثل المياه العذبة والصرف الصحي والكهرباء وتعبيد الشوارع المتعرجة وتشجيرها، وكذلك مكافحة الجرائم الساكنة فيها. وفي القرن العشرين بات زحف الحضر من أبرز مظاهر العولمة، كما يقول عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جيدنز، وتجاوز الأمر تلك المدن التي عرفها العالم القديم والوسيط، حيث بدأت الكرة الأرضية تعرف في النصف الثاني من القرن الماضي، طريقها الوسيع نحو انتشار المدن، وبدأت نسبة سكانها إلى مجموع سكان الكوكب تتعزز بمرور السنين، حتى بات من المتوقع أن يصلوا إلى 63% مع نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. والمدينة ليست مجرد مكان في الفراغ فحسب، وإنما هي أيضاً دراما مستمرة طيلة الوقت، وجزء من هذه الدراما أن المدينة فاعل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي قوي، فهي مجتمع تعددي حيث الدرجات المتفاوتة بين سكانه من حيث العوز والكفاية، ومن زاوية المشارب الفكرية والاتجاهات السياسية التي يعتنقونها، وكذلك من باب تنوع الأنشطة الاقتصادية. فعلى خلاف القرية التي يعمل معظم سكانها في الزراعة وما يرتبط بها من رعي وتجارة وطحن وخبز وتصنيع أدوات الحرث والحصاد والدرس، فإن سكان المدن يعملون في مهن عديدة ومعقدة. وجاءت العولمة لتزيد من قدرة المدينة على أن تكون فاعلاً في كافة مجالات الحياة ودروبها، لأنها راكمت على رأسها مشكلات جديدة تخص البورصة والبيئة واقتصادات المعرفة ومواقع التواصل الاجتماعي التي زادت أهل المدينة اغتراباً على غربتهم المزمنة. وراحت الأنظار تتجه إلى قياس مدى إسهام المدينة في الإنتاج الاقتصادي، وتطوير الدولة ودفعها إلى الأمام، مع قدرتها على مجابهة تحديات العمل وحفظ الأمن والحاجة المتجددة إلى السكن، وقدرتها كذلك على صهر «الثقافات الفرعية»، التي تتجاور وتتفاعل، في سبيكة واحدة متناغمة، أو على الأقل تتمكن من تقليص حجم الصراعات الناشبة بينها، أو إحداث حالة من التوافق تساعد على منع حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية أو التقليل منها إلى حد بالغ. ووسط هذا التفاعل المتواصل، عبر شبكات معقدة، تنشأ الحاجة الماسة إلى التمثيل السياسي والمشاركة في صناعة القرار السلطوي، والمطالبة بالحقوق المدنية.